المتوكّل والضريح المقدّس للإمام الحسين (عليه السلام)
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
ومن هذا أننا نجد أن التاريخ لا زال يسجل ذلك الموقف العدائي الذي وقفه المتوكّل من ضريح الإمام الحسين×، وهي مفارقة ضخمة تصدر من شخص يدّعي أنه خليفة المسلمين، وهو في الوقت نفسه يحاول أن يهدم ضريحاً هو في واقعه مثوى سبط من تسمّى هو خليفة له، ومنار يقصده المؤمنون من أبناء الإسلام لتأدية طقوسهم العبادية فيه، ولتوفيته حقه. لكن ما حدث أن هذا المدّعي الخلافة قد عمد إلى ذلك القبر الطاهر والمشهد المقدس، فحرثه، وقلع كلّ ما حوله ممّا يدل عليه، حتى إنه اقتلع الشجرة التي يحدثنا التاريخ أنها كانت عند القبر الطاهر، وتمثّل شاهداً يستدلّ به الناس على ذلك الضريح الشريف؛ كيلا يستدل أحد على ضريح الإمام الحسين×.
ولهذا فإن التاريخ لا زال يحفظ لنا تلك المفارقة، ويسجّلها على أنها إحدى وصمات العار في تاريخ الدولة العباسية، وفي تاريخ هذا السلطان الذي عمد إلى مشعر من مشاعر الإسلام، وإلى شعيرة من شعائره فاعتدى عليه، فكان أن عاد هو نفسه بعار هذا الفعل الشنيع والتصرّف الفظيع، وباء بهذا الخزي الأبدي الذي سجله عليه التاريخ.
وفي هذا الأمر الذي أشرنا إليه وقفة لافتة للنظر، وهي أن هؤلاء الطغاة لا زالوا يكثرون في تاريخهم من تسجيل تلك النقاط السوداء التي تغطّي مسيرتهم، وتطبع حياتهم ببصماتها؛ نتيجة وقوفهم ذلك الموقف المتعنّت والمتشدّد إزاء الدين، وإزاء دُور العبادة، وإزاء حقّ الناس في أداء تلك العبادة فيها، بعد أن يصادروا منهم تلك الحريات حتى وإن كانوا يدّعون بأنهم اُمراء للمؤمنين، أو أنهم خلفاء رسول ربّ العالمين، أو أنهم اُمراء المسلمين وقادتهم.
الإيحاءات الثورية لضريح الإمام الحسين (عليه السلام) وخطرها على الحكّام
إن المتوكل لم يكن خائفاً أبداً من تلك العظام الطاهرة التي واراها الإمام السجاد× في ذلك المكان المقدّس، ولم يكن كذلك فرِقاً من كون ذلك المكان ضريحاً ضمّ شخصاً باهى الله تبارك وتعالى بأبيه ملائكة السماء، أو أنه شخص له مكانة مرموقة وعظيمة بين المسلمين؛ لكونه سيّد شباب أهل الجنّة، وسيّد الشهداء، أو غير ذلك ممّا له من فضائل اشتملت عليها مكتبة مناقبه× وأسراره، وإنما كان خائفاً من كلّ تلك الإيحاءات الثورية التي يمكن أن تنطلق شعلتها المفعمة بالمبادئ الثورية والقيم الحركية التصحيحية، وأن تصبح شعلة من الثورات المتتالية التي إذا ما انطلقت فإنها حتماً سوف تنطلق مدوية تهدّ عروش الطغاة وأركانهم عندما يحتكّ بها الناس ممّن عرفوا الحرية التي ضمّتها بين جوانحها، وأدركوا المبادئ السامية التي حفلت بها ثورة الإمام الحسين×، حتى أصبحت بذلك القدر النابه من الشهرة والانتشار في كلّ بقاع الأرض المعروفة اليوم، فضلاً عن كونها كذلك آنذاك.
إذن فما كان يخيف الطغاة من أمثال المتوكّل منذ تلك الأزمنة والعصور وحتى وقتنا الحاضر هو ذلك الألق المنبعث من ضريح الإمام الحسين×، وذلك النور المنبثق منه وهو يدفع طلّاب الحرية وعشّاق المبادئ السامية إلى أن يتحركوا تأسّياً بالإمام الحسين× صاحب هذا الضريح، وتمثلاً بما كان يدعو إليه من قيم ومبادئ. وما هذا إلّا تأكيد لما كنا أصّلناه وذكرناه أكثر من مرة من أن أضرحة الأئمّة^ ليست مجرّد قبور تضمّ تلك الأجساد الطاهرة لأهل بيت النبي|، بل إنها مشعل يستضيء به الأحرار الذين تعلّموا من الإمام أبي عبد الله× كيف يختطّون طريق الحرية، ويرفضون الظلم والاستعباد والطغيان الذي كان يمثله حكّام الجور آنذاك، وفي كلّ زمان.
فهذه الأضرحة إنما هي بؤر تحرّرية شريفة لانطلاق كلّ تحرك إنساني شريف قائم على أساس طلب الحقوق والحريات الشخصية والدينية بممارسة حقّها في الشعائر الدينية والعبادات بشكل كامل دون أي تأثير أو تدخّل من السلطات. وكلّ ذلك مستوحىً من تلك الشخصيات العظيمة التي ضمّتها تلك القبور المقدسة، فاحتوت أجسامهم لكنها لم تستطع أن تحتوي أفكارهم أو أن تحدّ من تعاليمهم، أو أن تحول دون استطالة نورهم على الوجود كلّه.. نورهم الذي ينبثق عن علومهم وسيرتهم فيملأ الكون شذا وأريجاً من شذا الرسالة وعطرها، والذي يمتاره الوجود ضوءاً يأخذ بالناس إلى أن يتحرّكوا مطالبين بكلّ ما لهم من حقوق وحريات عند اُولئك الحكّام المستبدين والطغاة والظلمة من الحكام في كلّ زمان وفي كل آن.
والمتوكل قد التفت إلى هذه الظاهرة الهامة والنقطة الحساسة التي يمكن أن توحي بها تلك البقعة المطهّرة للإمام أبي عبد الله الحسين×. ومن هنا فإنه لم يكن يعتبرها مجرّد قبر حوى جسداً طاهراً لسبط رسول الله|، بل إنه كان يعتبرها نقطة إشعاع تنطلق منها شعلة من المبادئ والقيم الثورية التي تحرّض الإنسان وتدفعه دفعاً إلى أن يتحرّك ليطالب بحقوقه المغتصبة. ولذا فإنه لم يكن يهدأ له بال، ولم يهنأ بطعام أو شراب حتى عمد إليه فخرّبه.
وقد كان يعرف بناء على هذا أن كلّ من يقف على هذا القبر فإنه سوف يستوحي منه كلّ تلك القيم، وكل تلك الشعل الثورية؛ لأن هذا الزائر حينما يقف على ذلك الضريح المقدس فإنه سوف يعرف السبب الحقيقي الكامن وراء قيام الإمام الحسين× بحركته الرسالية.
والزائر لهذا المشهد الكريم لا يتوقّف عند هذا الحدّ من الاستيحاءات الربّانية، واستنطاقات المشهد النورانية له، بل إنه يضمّ إلى ذلك ما انطوت عليه نفسه من معرفة وجدانية ملاكها أن الإمام الحسين× ليس مجرّد ثائر عابر، بل إنه تلميذ السماء، وسبط رسول الله| وابنه الذي زكّاه؛ بحيث إنه لا يمكن أن يخطو خطوة واحدة من تلقاء نفسه، أو أن تكون حركته بدافع الهوى وطلب الدنيا والرئاسة، بل إنه× منزه عن كلّ ذلك، فهو إنما يطلب الآخرة، ويريد حفظ الدين والرسالة وإن كلفه ذلك دمه الشريف، وحياته المقدّسة، وعائلته الكريمة، وأصحابه وأهل بيته^الطيبين جميعاً.
وما دامت شخصية الإمام الحسين× بتلك القدسية والنزاهة والتزكية التي أعلنتها السماء وأشادت بها، ورفعت ذكرها بين العباد، والتي أشار إليها الرسول الأكرم|، فإن هذا الزائر يعرف حتماً أن التحرك الذي قام به الإمام الحسين×، والسبب الذي كان وراء قيامه× بثورته العظيمة المباركة هو تحرك مشروع، أي أنه تحرك يستمد مشروعيته من السماء بعد أن زكته، وقررت للناس بأنه لا يتحرّك إلّا بإرادتها كما صرح هو× بذلك أكثر من مرة([1]).
أثر السلطات على أصحاب الأفكار وموقفهم منهم
إذن فالزائر حينما يقف على الضريح المقدس لهذا الإمام الثائر العظيم الذي علّم الأحرار كيف يصرخون بوجه الظلم والاستبداد، وكيف يكونون أحراراً، وكيف يكونون اُباة للضيم وللظلم، وكيف يفكرون بحرية وهم يتعاملون مع سلاطين الجور دون خوف ودون رعب. وبالتالي فإنه× إنما قام بتلك الثورة المباركة بناء على توجيه السماء؛ لأن الشخص الذي تولّى مقاليد الحكم، وادّعى أنه يحكم باسم الله وباسم الإسلام وباسم الدين لم يكن كذلك، بل إنه كان بعيداً كلّ البعد عن هذه القيم والمفاهيم، وعن هذه المسميات والمعاني الشريفة.
وهكذا يتعرف هذا الزائر على طبيعة الإنسان الذي ثار الإمام الحسين× ضدّه، والإنسان الذي ثار من أجله، فيعرف أنه× إنما تحرك هذا التحرّك المقدس ضدّ ذلك الإنسان؛ لأنه كان جائراً وبعيداً كلّ البعد عن الدين وعن تعاليمه وتشريعاته وقوانينه؛ فكان مثلاً يشرب الخمرة، وكان يفعل الموبقات، وكان يضمّ في قصره كلّ القبائح، ويفعل كلّ ما نهى عنه الإسلام، ويترك كلّ ما أمر به. وهذا الأمر بطبيعة الحال يستدعي من كلّ إنسان حرّ أبيّ أن يتبرّأ منه، وأن يتحرّك ضده؛ كي يستنقذ الإسلام والمسلمين من بين براثنه؛ لأنه إنما يقود سفينة الإسلام بمن فيها من المسلمين نحو لجج عاتية مظلمة يمكن أن تحطم هذه السفينة وتقضي على كلّ فكر إسلامي فيها.
إن الأفكار عادة ما تتبلور في أذهان الناس نتيجة تأثّرهم بحالة من الحالات التي يعايشونها، كما هو الحال مع تأثّرهم بتلك الإيحاءات التي تنطلق شعاعاً نورانياً من ضريح الإمام الحسين، فيحرّكهم ويحرّضهم ويدفعهم إلى التأثّر بقيمه× وبمبادئه وبمبادئ حركته المقدّسة؛ لتتحول تلك الأفكار بعد تبلورها إلى عمل تعبوي حقيقي يعتمد التحرّك العسكري المسلح ضدّ الطغاة. وهذا هو السبب الذي جعل من كلّ الطغاة الذين حكموا البلاد الإسلامية بعد يزيد أدوات للشيطان تعمد إلى منع زيارة الإمام الحسين×، وإلى خنق كلّ صوت يمكن أن يجهر برثائه أو بذكره، أو بنشر مظلوميته التي تعرض لها، أو يتطرّق إلى نشر مبادئ تلك الثورة والحركة التي قام بها×.
وهم بهذا إنما يحاولون بذلك أن يقضوا على كلّ نزعة شريفة في النفوس تدفع أصحابها إلى التحرّك ضدهم.
_________________________
([1]) فقال×: «قد خار لي الله مصرعاً». مقتل الحسين×: 89، المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة: 116 ـ 117، تاريخ الطبري 4: 306 ـ 307.