الإمام الحسين (عليه السلام) والجوّ الاُسري في آية المقام
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
إننا بالرجوع إلى صدر آية المقام الكريمة فإننا نجد أن الدعاء فيه كان منصباً على الاُسرة وعلى العناية بجوّها؛ وما ذاك إلّا لأن الاُسرة الصالحة هي اللبنة الأساسية الأهمّ كما ذكرنا في بناء المجتمعات الصالحة، ولهذا لم يكن بدّ من التأكيد على دورها وعلى حياطته ورعايته، وعلى توفير الأجواء الصحية له. ومن وسائل توفير الأجواء الصحية له الدعاء الذي أراد النبي إبراهيم× عبره أن يربينا، وأن يعطينا درساً عملياً يشعرنا من خلاله بأهمية الاُسرة.
فالاُسرة إذن تقوم على أساس التعاطف والتوادّ القائمين بين الأبوين وأبنائهما، ولابدّ من أن يكون هذا التعاطف متبادلاً حتى نضمن ذلك الجوّ الدافئ والحنون والصحي والسليم لكل أفراد الاُسرة. ودعاء النبي إبراهيم× يشعرنا بأنه يريد لاُسرته الخير كما يريده لنفسه. وهذا هو الجانب الأهم الذي يريد أن يؤكده؛ لأن الآباء يجب أن يعتنوا بأبنائهم غاية العناية حتى يتمكّنوا من خلق اُسر سليمة تكون لبنات أساسية في بناء المجتمعات الدينية الصالحة.
ثم إن الأبوين يشعران بأن الولد هو امتدادهما وثمرتهما في الحياة؛ وهو الزهرة التي يمتعان بها أعينهما؛ ومن هنا فإنهما يجب عليهما أن يهتمّا بهذه الزهرة، وأن يعتنيا بها غاية العناية، وأن يرعياها رعاية كاملة حتى تكبر وتتفتح عن عطر طيب يضوع شذاه في المجتمع، فينفع نفسه، وينفع اُسرته، وينفع عائلته ومجتمعه في نهاية الأمر وخاتمته.
فكل هذا التأكيد للعطف المتبادل هو للحصول على هذا اللون من الجو الاُسري الدافئ الذي يكون قاعدة ممهّدة لبناء الاُسرة بناء متيناً سليماً. وهكذا فإن العطف الذي رأينا أنه يجب أن يكون متبادلاً بين الآباء والأبناء، وضرورة رعاية الآباء لأبنائهم وحمايتهم هو عطف يوجب على الآباء أن يدفعوا عن أبنائهم كلّ مكروه، وأن يذبّوا عنهم كلّ شر، كما أنه عطف تصل به درجة ضخامته إلى حد أنه يتعالى على الوصف وعلى التقدير. لكن ما بالك إذا كان ذلك الولد الذي هو قرّة عين أبويه وزهرتهما في الحياة ينظر إليه أبواه وهو مقطّع إرباً إرباً، وقد أخذته السيوف والرماح، فأصبح جسمه قطعة من جراح، كما الحال مع الإمام السبط أبي عبد الله الحسين×؟
فالأب غاية همه أن يحافظ على ولده، وأن يدفع عنه كلّ سوء ومكروه، أما الإمام الحسين× فقد دفع بأبنائه إلى ساحة المعركة وهو يراهم يقتلون أمامه في سبيل الدفاع عن الدين، فقد أخذ علياً الأكبر والقاسم وغيرهما من فتيان بني هاشم والأنصار وقدّمهم قرابين خالصة إلى الله تبارك وتعالى. وهنا يجلس الحسين× عندهم في خيمة الشهداء بعد أن يحمل كلّ شهيد يسقط إليها، يجلس ما بين علي الأكبر× والقاسم× ينظر إلى وجه هذا مرة، وإلى وجه هذا مرة، ثم يروح يقول:
غريبون عن أوطانهم وديارهم *** تنوح عليهم في البراري وحوشُها
وكيف ولا تبكي العيون لمعشـر *** سيوف الأعادي في البراري تنوشُها
بدور توارى نورها فتغيرت *** محاسنها ترب الفلاة تحوشُها([1])
كان هذا حال الحسين×، أما حال النساء فكان أشدّ، وكان وجدهن أكبر، وكان ألمهن وعناؤهن لا يقاس به ألم ولا يضاهى به عناء؛ سواء كان في كربلاء، أو في طريق السبا، أو في مدينة رسول الله|. يقول أحد الأعراب: مررت بأحد أحياء المدينة المنوّرة، فسمعت أنيناً سمّر قدمي إلى الأرض، فسألت عن هذا البيت فقيل: للحسين. قلت: لمن من أهله؟ قيل: إنه بيت ليلى اُم علي الأكبر. لقد كانت لا تهدأ الليل ولا النهار؛ فقد كان ألمها أشدّ وأكبر:
تظن اترد ليالينه *** يبني يا علي الاكبر
ويرد ريحان البخدك *** من ماي الشباب اخضـر
ويرد النور لعيوني *** يو لا ماي واتْطشـر
***
بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا *** وخلفوا في سويدا القلب نيرانا([2])
_______________________