الإمام الحسين (عليه السلام) يوظّف العقل في حركته
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
وهذا هو الموقف هو عينه الذي وقفه الإمام الحسين× يوم الطف حيث إنه خطب في عسكر يزيد قائلاً: «ألستم تعرفون من أنا؟ فانسبوني وانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟»([1]).
وهو× يريد بقوله: «ثم ارجعوا إلى أنفسكم»: استغلوا عقولكم واستخدموها لتعرفوا من أنا؛ فإنكم إن فعلتم ذلك عرفتم أني ابن من أنقذكم من حيرة الجهالة، ومن جاهلية الضلالة، وانتقل بكم إلى الهدى، وأني ابن من حمل إليكم النور وإشعاع السماء، وأشاع العدل فيكم.
ومن ضمن موارد إعمال عقولكم أن في معسكري ومعسكركم جملة من الصحابة الذين سمعوا ما قاله جدي رسول الله| فيّ وفي أخي الحسن× حيث قال: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»([2]). فحكموا عقولكم إذن، واعرفوا عن طريقها بلحاظ هذا الحديث الشريف وغيره من الأحاديث المشرّفة ما إذا كنت على حقّ، أو على باطل، وإلّا فلماذا عطّلتم عقولكم ونظركم، وصرفتموها عن أداء وظيفتها؟
واعلموا أني في هذا الموقف لا اُريد أن أستجدي العفو منكم أبداً؛ لأني على علم بكل خطوة خطوتها، وكلّ قدم مشيتها، فأنا على علم تامّ بأسرار حركتي ونهضتي، وبأسباب خروجي للقيام بهذه النهضة، كما أنني مصمم على تحقيق الهدف الذي خرجت من أجله، وسوف أصل إن شاء الله إلى هذا الهدف الذي نذرت له نفسي حتى لو كلفني ذلك روحي ودمي وعائلتي وأهل بيتي وأصحابي ثمناً له؛ فإن الروح والدم وكلّ ذلك الذي ذكرته لكم لا قيمة له أمام أمر يعد الدفاع عنه دفاعاً في سبيل الله تبارك وتعالى بل إن جميع ذلك يهون من أجل ذلك الهدف الذي نذرت له نفسي، والذي رسمته كعنوان لهذا النهضة المباركة.
فالموقف الذي أنا بصدده يهون دونه كلّ شيء، ويرخص معه كلّ غالٍ، لكني اُريد لكم أنتم أن ترجعوا إلى عقولكم وتستخدموها، وتمنحوها فرصة الرجوع إلى ممارسة وظيفتها؛ حتى لا تقعوا في مغبة أعمالكم، ولا في عمى أنفسكم وضلالتها، وهو ما يأخذ بكم إلى النار التي أرى أن من واجبي أن اُنذركم، وأن اُحذّركم إياها، وأن أستنقذكم منها؛ لأنكم تحت رعايتي ومسؤوليتي.
ولهذا فإنه× راح يقول لهم: «أفهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون؟»([3])، موبخاً إياهم على سبب التفافهم حول رؤوس الكفر والغدر، وانجذابهم إليهم، وتركهم الحقّ وأصحابه المتمثل بأبناء رسول الله| مع أن رؤوس الغدر قد فعلت بهم ما فعلت من سفك دمائهم، وهتك أعراضهم، ونهب أموالهم. وفوق كلّ ذلك قد أخذوا البيعة منهم مكرهين، وعلى أنهم عبيد أقنان، وليس على أنهم رعية لهم حقوق المواطنة.
ولذا فإن لسان حاله× كان: أفلا يحملكم هذا على تشغيل عقولكم، وعلى الرجوع إليها، وعلى النظر نظرة المتأمّل العاقل حتى تعرفوا أين هي جهة الحق، وأين هو المعسكر الذي يمثّل رسول الله|، فتكونوا إلى جانبه؟
وإذا كان الأمر كذلك، وقد أعملتم عقولكم وصرفتموها إلى أداء وظيفتها، فلماذا إذن تستبيحون حرمتي، وتحاولون قتلي، وتنتهكون حرمات رسول الله|؟
ثم قال لهم: «ويلكم على ماذا تقتلونني؟ أعلى عهد نكثته، أم على سنّة غيّرتها، أم على شريعة بدّلتها، أم على حقّ تركته؟». وهو مطالبة بإعمال العقل هنا، فما لم يكن هناك موجب للقتل هل يرتضيه العقل أن يقع؟
لكن هؤلاء الذين رين على قلوبهم، واُعميت عيونهم عن الحقّ، وصمّت آذانهم عن سماعه لم يكن جوابهم إلّا أن قالوا: نقاتلك بغضاً منّا لأبيك([4]). ثم رشقوه بالسهام رشقة واحدة، فأقبلت إليه كأنها المطر، فتراجع× قليلاً، ثم رمق السماء بنظره الشريف وقال: «اللهم إن هؤلاء قوم قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾([5])»([6]).
ثم وضع يده على قائم سيفه، فاستله ونزل إلى أرض المعركة كأنه الهزبر؛ ليؤدي رسالته التي أراد إيصالها إلى الناس، وليحقق الهدف الذي خرج من أجله، فقاتل حتى أثخنته الجراح. ورحم الله الكعبي إذ يقول:
خلط البراعة بالشجا *** عة فالصليل هو الدليلْ
لِسنانِه ولسانِه *** صدقان من طعن وقيلْ
وأبو المنية سيفه *** وكذا السحاب أبو السيولْ([7])
نعم لقد قاتل قتال الأبطال حتى عمّد الأرض بدمائه ودماء أهل بيته صغيرهم وكبيرهم بعد أن قدمهم قرابين طيّعة بين يدي الله تبارك وتعالى. ثم إنه× لما نظر إلى أهل بيته وأصحابه صرعى، التفت إلى الخيمة ونادى: «يا سكينة، يا فاطمة، يا زينب، يا اُم كلثوم، عليكن مني السلام». فسمع نحيباً في الخيمة، ثم نادته سكينة: يا أبه، استسلمت للموت؟ فقال×: «كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين؟». فقالت: يا أبه، ردنا إلى حرم جدّنا. فقال×: «هيهات لو ترك القطا لنام». فاختنقت÷ بعبرتها وبكت، وتصارخت النساء، فسكتهن×، ثم حمل على القوم([8]).
وهو× يريد بقوله: «هيهات لو ترك القطا لنام» أنه خرج لهذا الهدف، وسوف يموت من أجله حتى وإن عزّ الناصر وقلّ المعين.
ثم صاح: «اُخية زينب». فجاءته العقيلة زينب÷ ملبّية ودموعها على خدّيها، فأثّر منظرها فيه× وهي من هي بالنسبة إليه، فأخرج منديله فمسح به دمعة كادت تنزل على خدّها، وقال لها: «اُخيّة تعزّي بعزاء الله، لا يذهبن بحلمك الشيطان، اعلمي أن أهل السماء لا يبقون، وأهل الأرض يموتون ولي ولكلّ مسلم برسول الله| اُسوة حسنة. اُخيّة، تمسّكي بحبائل الصبر»([9]). فصاحت: والوعتاه ابن اُمّ أراك تغتصب نفسك اغتصاباً([10])!
موحياً إليها بهذا الفعل بأنه× لا ينتظر منها الدموع، بل إنه ينتظر منها الموقف الصلب والبطولة الهاشمية اللذين عليها أن تقارع بهما الظلم والظالمين وسياط الجلّادين. وهكذا كانت÷؛ فقد وقفت أمام العتاة والطغاة مواقف تنم عن صلابة وبأس شديدين في وجه الطغاة والظالمين، ولم يظهر عليها الانكسار في معركتها الإعلامية، ولم يبِن عليها الاستخذاء أمام الظالمين، لكنه× بعد أن سقط إلى الأرض لا يقوى على الحركة فضلاً عن الدفاع عن حرائره ونسائه، رأى القوم وقد هجموا على خيام حرم رسول الله|، فصاح فيهم قائلاً: «أما من مغيث يغيثنا؟ أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله؟»([11]).
فلم يسمع منهم جواباً إلّا أن تمادوا في فعلهم، حيث عمدوا إلى حرق الخيام وترويع من فيها من النسوة والأطفال، ولهذا فإن العقيلة زينب÷ حينما جنّها الليل اختنقت بعبرتها وراحت تقول:
يخويه الشمر والله هضمني *** ضربني على متوني وشتمني
لا انـكســر گـلبــه ولا رحـمـنــي
***
مظلومة مقهورة مضـروبة *** مسلوبة حتى الخمار وبرقعي
أاُخي ما عوّدتني منك الجفا *** فعلامَ تجفوني وتجفو من معي
أنعِم جواباً يا حسينُ أمَا ترى *** شمرَ الخَنا بالسوط ألهبَ أضلُعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الإرشاد 2: 97، تاريخ الطبري 4: 322 ـ 323، وتمام الحديث: «ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيّه وابن عمّه، وأول المؤمنين، المصدّق لرسول الله| بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزة سيّد الشهداء عمي؟ أوليس جعفر الطيّار في الجنة بجناحين عمي؟ أولم يبلغكم ما قال رسول الله| لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإن فيكم من لو سألتموه عن ذلك أخبركم؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله|».
([2]) انظر: فضائل الصحابة (أحمد بن شعيب): 20، 58، 76، مسند أحمد 3: 3، 62، 64، 82، 5: 391، 392، سنن ابن ماجة 1: 44، الجامع الصحيح (سنن الترمذي) 5: 321، 326، المستدرك على الصحيحين 3: 167، 381، شرح النووي على صحيح مسلم 16: 41، وغيرها كثير.
([4]) نور العين في مشهد الحسين× 1: 51، ينابيع المودّة 3: 80.
([7]) ديوان الشيخ هاشم الكعبي: 33.
([9]) الإرشاد 2: 94، تاريخ الطبري 4: 319، البداية والنهاية 8: 192.
([11]) كشف الغمّة 2: 261، اللهوف في قتلى الطفوف: 61، بحار الأنوار 45: 12.