حركة الإمام الحسين (عليه السلام) ومحاولة تشويه أهدافها

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

إن الكثير من المؤرّخين والمحدّثين وكتّاب السير قد دأبوا على طمس الحقائق الناصعة وهضمها، بل إن هذا الأمر لم يكن يقتصر على هؤلاء، فهو قد امتدّ حتى إلى الحكام الذين جندوا من جندوا بدعمهم في مواقفهم من الحق وأهله. ومن هذا ما فعله مثلاً ابن زياد حينما حاول تشويه رسالة النبي| بعد أن بلغه خروج ابنه الحسين× على حكم يزيد، فقد بعث ابن زياد خلف جماعة من العلماء وأحضرهم عنده ثم قال لهم: ما تقولون فيمن خرج على إمام زمانه؟ فقالوا: ليس له إلّا القتال. فقال ابن زياد بخبث ودهاء: وإن كان سبط رسول الله؟ قالوا: وإن كان سبط رسول الله.

مع أن هذه الدعوة التي دعا إليه بن زياد، وهذا الموقف الذي وضع فيه وعّاظ السلاطين ينبغي أن يخضع إلى الواقع وأن يمحّص حتى نعرف أين هو مكمن الحق، وهل إن المقدمات التي اعتمدها ابن زياد هذا هي مقدمات تامة أم إنها غير تامة، وبالتالي فإن النتيجة تكون مخرومة لأنها تتبع أخس المقدمات.

الردّ على من يدّعي شرعية خلافة يزيد

ومن هذا فإن علينا إذا ما أردنا أن ننقض صحّة خلافة يزيد، ونثبت بطلان المبايعة له أن نحقق هنا عدّة اُمور، هي:

أولاً: تحقيق عنوان البغي وتحديد أبعاده

إن علينا قبل كلّ شيء أن نحقّق عنوان البغي المراد هنا، وأن نرى أبعاده، ثم نلاحظ مصاديقه واُولئك الذين يطبقونه ويعتمدونه؛ لنعرف بالنتيجة من هو الباغي.

ثانياً: تحقيق مفهوم إمام الزمان

كما أنه علينا أيضاً أن نحقق في مفهوم إمام الزمان، وأن نعرف صفاته، وما هو وما يجب أن يكون عليه حتى ننظر إلى مصاديقه في الخارج لنرى من هو الذي يستحق هذا اللقب.

إننا نعرف أن إمام الزمان هو الشخص الذي تتوفر فيه شروط الإمامة من العدل، والإيمان، والتقى، والورع، والعصمة، والنسب الصحيح، وما إلى ذلك من كلّ ما يمكن أن يكون سبباً لمثلبة فيه أو لمنقصة. وأهم شرط عندنا نحن الإمامية في إمام الزمان هو أن يكون معصوماً، أما المذاهب الإسلامية الاُخرى فتخالفنا في هذا الشرط، لكنها تتّفق معنا في الشروط الاُخرى، وهي العدالة والعلمية والنسب الصحيح وما إلى ذلك.

ثالثاً: من له الحقّ في نصب الإمام (عليه السلام)

ثم إنهم يختلفون معنا كذلك في مسألة تنصيب الإمام، وهل إنه يكون عن طريق النص كما نذهب نحن إليه، أو عن طريق الشورى كما هم يذهبون إليه؟ فمعلوم أن الإمام منصوص عليه، وأن الله تبارك وتعالى قد أمر نبيه| بأن ينص على خليفته، أما أبناء المذاهب الإسلامية الاُخرى فيرون أنه ليس هنالك من نص في المقام، بل إن المسألة قائمة على أساس الشورى والانتقاء، حيث إن المسلمين يجتمعون ويتشاورون؛ لينتخبوا من بينهم خليفة. وهم يضيفون كذلك طريقاً ثانياً هو أنه يمكن أن يكون الخليفة بالتعيين من الخليفة الشرعي الذي قبله.

يزيد بن معاوية على طاولة تشريح الخلافة

وحينما نريد أن نطبق معنى الإمام بصفاته ومفهوم الإمامة على مصاديقه الذين يدّعى لهم أنهم أئمة، ومن هؤلاء يزيد، فهل سوف نجد يزيد هذا يتصف بتلك الصفات التي يضعها الشارع المقدس للإمام، والتي يذكرها الفقهاء؟ كما أننا سوف نستكشف التاريخ ونستنطقه لنرى أي الصفات كان عليها يزيد بن معاوية حتى يصح أن نقول عنه بأنه إمام الزمان والخليفة الشرعي، أو لا يصح أن نقول ذلك. وهذا ما سوف نتناوله من عدة محاور أهمها:

1 ـ محور العلم.

2 ـ محور العدالة.

3 ـ محور التعيين والتنصيب.

أي هل إن يزيد كان عالماً عادلاً؟ ومن الذي نصبه؟ هل إن السماء هي الذي نصبته، أم إنه نص عليه خليفة شرعي قبله حتى يقال بأن إمامته إمامة شرعية وصحيحة؟

إننا حينما ندقق في هذه الأسئلة في محاولة للوصول إلى الحقيقة عبر تحصيل الأجوبة عليها، فإننا سوف نجد أن الأجوبة هي النفي القطعي دائماً من خلال استعراض سيرة هذا الرجل وأفعاله وتصرفاته وتدليساته التي كان يقوم بها، ومحاولاته الهادفة إلى القضاء على بذرة الإسلام وإرجاع الناس إلى الجاهلية.

إن يزيد بن معاوية ـ كما هو معروف ـ هو أوّل من نُصّب ولياً للعهد في تاريخ المسلمين، وفي خطّ الخلافة التي يدّعى لها أنها إسلامية، ولذا فإن شريحة عريضة من الصحابة والتابعين رأوا أن في ولاية العهد هذه بدعة في تاريخ الإسلام، وأنها ليست من الإسلام في شيء؛ لأنها لم تكن معروفة في زمن الرسول الأكرم| ولا زمن الخلفاء الراشدين من بعده. وبناء على هذا فهل يمكن أن نعتبر يزيد إمام العصر العادل المحق، والحسين× باغياً؟

ولذا فإن هؤلاء الذين جمعهم عبيد الله بن زياد كما رأينا فيما مر حينما أخبروه بأن الخارج على إمام زمانه ينبغي أن يقاتل سألهم عبيد الله. ولو كان سبط رسول الله؟

فكان الذي حصل أن الموقف قد خذلهم، وتهاووا، فأجابوه بما رأينا، وهو أنه يجوز قتل هذا الخارج حتى ولو كان سبط رسول الله والحافظ لدينه. ومن ضمن هذه الجماعة التي أفتت عبيد الله بهذه الفتوى المشؤومة شبث بن ربعي حيث إنه وقّع على تلك الوثيقة التي أثبت فيها كون سبط رسول الله| طاغياً باغياً، خارجاً على إمام زمانه وخليفة رسول الله| الشرعي.

موقف ابن العربي من قتل الإمام الحسين (عليه السلام)

ومن هنا فإننا نستغرب هذا الموقف الذي أصر عليه أحد كبار المفسرين عند المذاهب الإسلامية وهو ابن العربي الذي يصرّح دون تردد ودون مراعاة لحرمة رسول الله| بأن الإمام الحسين× قد قُتل بسيف جده|([1]). أي أن بغيه على إمام زمانه يزيد (تنزّه السبط× عن هذا الهراء) أدّى به إلى أن يُقتل بناء على حكم شريعة جدّه| التي تحكم بقتل كلّ من تسوّل له نفسه أن يمسّ الخلفاء الاُمويين وأمثالهم، فضلاً عن رفع السيف في وجوههم ومقاتلتهم.

وهذا من أعجب العجب؛ فهل إن من المعقول ألّا يعلم هذا الرجل المدّعي العلم ـ حيث لم ينجِه علمه من مهاوي الردى ـ أن الإمام الحسين× هو سبط رسول الله، وهو الحافظ لدينه والامتداد لرسالته، أم إنه أفتى بذلك ممالأة للحكّام، أو منافقة لمن يذهبون هذه المذاهب في عصره؟ والأغرب من هذا أنه يعتبر يزيد إماماً عادلاً، وخليفة شرعياً مع كل ما هو معروف عنه من بغي، وانحلال وانصراف عن الدين، وانقطاع إلى اللهو، ومع كلّ ما اُثر عنه من تصرفات تصبّ في نتيجتها في عملية هدم الدين، ومحاولة الرجوع بالناس القهقرى إلى الجاهلية العمياء التي أخبرنا عنها منام رسول الله|([2]).

من صفات يزيد

لقد اتّصف يزيد بن معاوية بصفات كثيرة كانت كلها تخدم هدف القضاء على الإسلام وتصبّ في بوتقته؛ لأنها كلها مما حرم الإسلام القيام بها، ومن هذه الصفات:

1 ـ أنه كان يشرب الخمر.

2 ـ أنه كان يضرب بالعيدان والأوتار ويستمع الغناء.

3 ـ أنه كان يتصيد بالفهود ويربي القردة.

إلى غير ذلك من الصفات الذميمة التي يضيق عن حصرها مضمار هذا البحث.

ولعل أهم أمر فعله في حياته، وفيه مخالفة صريحة لله تبارك وتعالى هو عزفه على وتر أن الإمام الحسين× خارج على إمام زمانه الشرعي، وعلى سلطانه الحاكم، فكان يصوّر الإمام الحسين× وأهل بيته وأصحابه^ على أنهم اُناس خوارج، أي أنهم خرجوا ضد الحكم الشرعي المتمثل بشخصه.

ولهذا فإنه حينما اُدخلت سبايا رسول الله| وحرمه إلى الشام كانت قد سبقتهم الإشاعة بذلك وهي أن هؤلاء خوارج، وعليه فإنهم حين اُدخلوا مجلس يزيد حاولت السيدة الطاهرة عقيلة الطالبيين زينب الكبرى÷ أن تفند هذا الادعاء، وأن تكشف زيف هذه الإشاعة وأن تعرّي موقف يزيد عن غطائه الذي حاول به إخفاء الحقيقة، وتظهره على حقيقته، وبالتالي تبين أسرار تلك النهضة العقيدية الخالدة التي قام بها أخوها أبو الأحرار الإمام الحسين×، وتشرح أبعادها السياسية والفكرية والعقيدية.

لقد حدّثنا التاريخ بأنها÷ وقفت في وجه يزيد وقفة شجاعة قائلة له: «أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء؛ فأصبحنا نساق بين يديك كما تُساق الاُسارى إن بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده وجليل قدرك لديه، فشمخت بأنفك ونظرت بعطفك جذلانَ مسروراً حتى رأيت الدنيا لك مستوسقة، والاُمور لك متسقة؟ فمهلاً مهلاً، لاتطِش جهلاً، أنسيت قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾([3])؟».

ثم قالت له: «أمن العدل يابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله| سبايا؛ قد هُتكت ستورهن، واُبديت وجوههن؟»([4]).

ثم أخذت السيدة العقيلة الطاهرة÷ تمارس دورها الإعلامي بكلّ أبعاده، وتؤدّي واجبها المخبّأ لها في هذه الحركة الرسالية بكل قوّة وصرامة، فعمدت إلى أن تبين لمن حضر مجلس يزيد الضالّ ممن استغفلهم بإعلامه المضلّل، واستوسق على فكرهم بإشاعاته وبجهازه المخابراتي، وختم على قلوبهم وعقولهم، وجعلهم ينصاعون إليه دون تفكير ودون تأمل بأنهم ليسوا بخوارج، بل إنهم أهل الدين، ومنبع العلم، وموضع الرسالة، ومهبط الوحي والتنزيل.

لكنها÷ مع كلّ ذلك الوعي، وكلّ تلك القوّة والصلابة اللتين يتّصف بهما أهل هذا البيت الطاهر عامّة غلبت عليها اللوعة، واستحكم عليها الألم؛ لأن الدنيا قد ناوأتها حتى أوصلتها إلى أن تدخل إلى وكر الخمر والقمار، ومجلس الطرب واللهو الذي كان عليه يزيد، فراحت تخاطبه قائلة: «ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء؛ فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفّرها اُمهات الفراعل. ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾([5]).

فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل، فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلّا فند، وأيامك إلّا عدد، وجمعك إلّا بدد يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل»([6]). ثم سكتت على مضض.

وكان ما حدث بعدها أنها÷ هزّت مجلس الطاغية ببلاغتها وقدرتها على تصريف المفردات والمعاني وتطويعها، وحرّكت النفوس التي وعت حينها الحقيقة الأليمة بعد أن ران على قلوب أصحابها الإعلام الاُموي بغطائه وأكاذيبه وأضاليله:

وأعظمُ ما يشجي الغيور دخولها *** على مجلس ما بارح اللهوَ والخمرا
يعارضها فيه الدعيّ مسبّة *** ويصرف عنها وجهه معرضاً كبرا([7])

_____________________________

([1]) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 1: 265 ـ 266، تفسير الآلوسي 26: 73.

([2]) حيث قال (صلوات الله عليه وعلى آله): «رأيت بني اُميّة ينزون على منبري نزو القردة يردّون الناس عن الدين القهقرى». جامع البيان 15: 141، الجامع لأحكام القرآن 10: 282 ـ 283، سير أعلام النبلاء 2: 108. فهبط عليه جبرئيل× يحمل سورة القدر، وأخبره أن ما رآه حقّ، وأن مدّة ملك بني اُميّة ألف شهر، وأن ليلة القدر خير منها دون ليالي القدر التي فيها.

([3]) آل عمران: 178.

([4]) الاحتجاج 2: 35، اللهوف في قتلى الطفوف: 106، بحار الأنوار 45: 134، 158.

([5]) فصلت: 46.

([6]) الاحتجاج 2: 37، اللهوف في قتلى الطفوف: 108، بحار الأنوار 45: 135، 158.

([7]) المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة: 326، وفيات الأيمّة: 166.

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة