الرسالةُ العاشورية (في تحقيق صوم عاشوراء) ـ 07
تأليف: العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي& (ت 1315هـ)
بل قد صرّح ابن حجر في (الصواعق المحرقة) ـ وهو من متعصّبي الفرقة المتزندقة ـ بالوضع والتزوير لما ورد في شأن هذا اليوم من الفضل الكثير، حيث قال بعد كلام قدّمه في معرض الرد على الناصبة ـ الذين يتّخذونه عيداً، ويظهرون فيه الفرح والسرور، ويجعلونه يوماً سعيداً، وأنّه لم يرد في ذلك شيء يعتمد عليه، ولا أثر صحيح يرجع إليه ـ ما هذا لفظه:
«وقد سُئل بعضُ أئمّة الحديث عن الكحل والغسل، والحِنّاء وطبخ الحبوب، ولبس الجديد وإظهار السرور يوم عاشوراء؟ فقال: لم يرد فيه حديث صريح صحيح عنه| ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبّه أحد من أئمّة المسلمين لا من الأربعة ولا من غيرهم، ولم يرد في الكتب المعتمدة في ذلك حديث صحيح ولا ضعيف.
وما قيل: إنّ مَن اكتحل يومه لم يرمد ذلك العام، ومن اغتسل لم يمرض كذلك، ومن وسّع على عياله فيه وسّع الله عليه سائر سنته، وأمثال ذلك مثل فضل الصلاة فيه، وإنّه كان فيه توبة آدم، واستواء السفينة على الجودي، وإنجاء إبراهيم× من النار، وفداء الذبيح بالكبش، وردّ يوسف على يعقوب، فكلّ ذلك موضوع، إلّا حديث التوسعة على العيال، لكن في سنده من تكلّم فيه…»([1]) إلى آخر ما قاله، ضاعف الله عليه نكاله.
وفيه شفاء صدور المؤمنين في الردّ على اُولئك المتعصّبين، حيث يجعلونه لفرحهم موسماً وإن أخطأ طريق الردّ على الشيعة لاتّخاتهم إيّاه مأتماً([2]).
وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
وأمّا رابعاً: فلأنّا لو سلّمنا استقامة الجمع المذكور، فهي إنّما تتمّ بالنسبة إلى ما سوى صحيح زرارة، ومحمد بن مسلم([3])، وخبر [نجبة]([4])، الدالّين على نسخ الصوم المزبور، أمّا بالنسبة إليهما فلا وجه له بالأصالة، بل الوجه بطلانه بلا محالة، على أنّك إذا تتبّعت كلمات أهل الاُصول في بحث النسخ وجدتها منطبقة على العمل بمضمون هذين الخبرين بصريح المقالة، لأنّهم ينسبون إلى المشهور بين المحقّقين جواز نسخ الأخف بالأثقل، ويمثّلون له بنسخ صوم عاشوراء بصوم شهر رمضان.
وإليه يميل كلام السيّد السند في (المدارك)([5]) وبعض المتأخّرين([6]) الأعيان.
فيلزم حينئذٍ؛ إمّا القول بحرمته، وإمّا الحكم بعدم النسخ لمشروعيّته.
فإنْ قلت: لا منافاة بين القولين ولا تدافع بين المسألتين، لأنّ المنسوخ إنّما هو الوجوب، والذي حكموا به إنّما هو الاستحباب، فلا تناقض لاختلاف الجهتين.
قلت: هذا أوان دفع الإيراد، إلّا أنَّ دونه خرط القتاد، لحكمهم أيضاً في مسألة نسخ الوجوب بعدم بقاء الجواز والاستحباب، ولم ينقل الخلاف هناك إلّا عن بعض الأصحاب، فليس إلّا أن يُجاب بأنّ الجواز المحكوم به هنا ليس هو الجواز الواقع جنساً لفصل الوجوب الذي هو المنع من الترك ليلزم من عدم الفصل عدم الجنس، بل هو مستفاد من الأدلّة الاُخر الواردة بعد نسخ الإيجاب الحاكمة بالاستحباب.
وحيث قد أثبتنا المعارض القوي بالاستدلال، صارت تلك الأخبار في حيّز الاضمحلال، فبقي النسخ بلا دافع وترك صومه بلا رافع.
وحيث قد تمهّد ممّا ذكرناه وثبت ممّا أصّلناه ضعف دليل القول المشهور وكونه في درجة القصور، فالأولى هو اجتناب الصوم المزبور ولو لقاعدة الاحتياط الذي يؤمن به من الاختباط ويسلك به سواء الصراط، لدوران الأمر حينئذٍ بين الندب والكراهة والتحريم، وعدم القول بالوجوب فيه والتلزيم، والاقتصار في ذلك على ما تضمّنته صحيحة عبدالله بن سنان المرويّة في (المصباح) و(الإقبال) عن الصادق× من الإمساك عن الشراب والطعام، وسائر المستلذات من غير تبييت نيّة الصيام، حيث قال فيها:
دخلتُ على سيدي أبي عبدالله جعفر بن محمد’ في يوم عاشوراء فألفيتُه كاسفَ اللون، ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يابن رسول الله| ممّ بكاؤك، لا أبكى اللهُ عينَيك؟
فقال لي: «أوَ في غفلة أنت؟ أمَا علمت أنّ الحسين بن علي’ اُصيب في مثل هذا اليوم» فقلتُ: يا سيّدي فما قولك في صومه؟
فقال لي: «صمه من غير تبييت، وافطره من غير تشميت، ولا تجعله صوم يوم كملاً، وليكن إفطارك بعد العصر بساعة على شربة من ماء، فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم انجلت الهيجاء عن آل رسول الله|، وانكشفت الملحمة عنهم، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً من مواليهم يعزّ على رسول الله| مصرعهم، ولو كان في الدنيا حيّاً لكان هو المعزَّى بهم…»([7]) إلى آخر كلامه عليه أفضل صلوات الله وسلامه.
ومثلها عنه أيضاً رواية معاوية بن وهب المرويّة في كتاب (المنتخب)، وفيهما من الدلالة على المطلوب ما لا يخفى على ذوي القلوب.
وحينئذٍ فيصير التعبير بالإفطار الذي لا يكون إلّا بعد تحقّق الصيام من باب المشاكلة اللفظيّة، لأنّه لَمّا سُمّي ذلك الإمساك صوماً بناءً على المعنى اللغوي سُمّي ما يُضادّه إفطاراً أيضاً، كما قال الشاعر:
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لكَ طبخه *** قلتُ أطبخوا لي جبّةً وقميصا
ألا ترى أنّ الطبخ للجبّة والقميص إنّما وقع لمشاكلة ما قبله، وهو ظاهر لمن تأمّله.
وعلى العمل بمضمون هاتين الروايتين عوّل جمعٌ كثيرٌ وجمٌ غفيرٌ من المحقّقين؛ كالشيخ الطوسي قدّس سرّه القدوسي في (المصباح)([8])، إلّا أنّه ذكر الإفطار على التربة الحسينيّة، وكالمحقّق الشيخ علي بن عبدالعالي في حاشيتي: (الشرائع)([9]) و(الإرشاد)([10]). وثاني الشهيدين في (المسالك)([11])، والسيّد السند في (المدارك)([12]) والمحدّث الكاشاني([13])، والآخوند الملّا محمد باقر المجلسي في (زاد المعاد)([14])، وجملة من متأخّري المتأخّرين([15]). بل يظهر من عبارتي المحقّق الثاني في حاشية (الشرائع) وشهيد (المسالك) حمل كلمات الأصحاب الحاكمين باستحباب الصيام على وجه الحزن على الصوم المذكور في الرواتين المذكورتين.
إلّا أنّه بعيدٌ غايةً ومنافٍ لقواعدهم نهايةً، لما تقرّر عندهم من أنّ أسماء العبادات حيث تُطلق في لسان المتشرعة إنّما تحمل على المعاني الشرعيّة دون المعاني اللغويّة، ولشيوع الخلاف قديماً وحديثاً بين علماء الإماميّة، فلو صحّ هذا الوجه لانتفى الخلاف من رأسٍ وانهدم من الأساس.
يتبع…
________________________
([1]) الصواعق المحرقة: 183 ـ 184.
([2]) حيث قال فيه: (فصار هؤلاء لجهلهم يتّخذونه موسماً، واُولئك لرفضهم يتّخذونه مأتماً، وكلاهما مخطئ) الصواعق المحرقة: 184.
([3]) الفقيه 2: 51 / 224، الوسائل 10: 459، أبواب الصوم المندوب، ب 21، ح1.
([4]) في المخطوط: نخبة، وما أثبتناه من المصدر. الكافي 4: 146/ 4، التهذيب 4: 301 /910، الاستبصار 2: 134/ 411، الوسائل 10: 461، أبواب الصوم المندوب، ب21، ح5، وقد ورد في الثلاثة الأخيرة: نجية.
([6]) جامع المقاصد 3: 86، الحدائق الناضرة 13: 376.
([7]) مصباح المتهجد: 724، إقبال الأعمال 3: 65، ولم يذكر فيه ذيل الحديث.
([9]) المصدر غير متوفر لدينا، والعبارة نفسها في جامع المقاصد 3: 86.
([10]) المصدر غير متوفر لدينا، والعبارة نفسها في جامع المقاصد 3: 86.