الرسالةُ العاشورية (في تحقيق صوم عاشوراء) ـ 06
تأليف: العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي& (ت 1315هـ)
وفي خبر الحسين بن أبي [غندر]([1]): «إنّ الصوم لا يكون للمصيبة ولا يكون إلّا شكراً للسلامة»([2]) الحديث.
وهو كسابقه في الدلالة، كما لا يخفى على من أشرقت عليه شمس الجلالة والنباهة والنبالة.
فإنّ ظاهر هذه الكلمات الشريفة بل العقود الطريفة تأسيس قاعدة كليّة لطيفة، وهي: إنّ الحزن لم يكن سبباً لاستحباب الصيام في شيء من الأيام، وإنّ الصوم إنّما يستحبّ في الأيام التي يتجدّد فيما الفرح والسرور دون الأيام التي يحدث فيها الترح([3]) والشرور.
ويؤيّد ذلك الاستقراء التامّ والتتبّع لآثار الأئمّة الأعلام، فإنّه لم يرد استحباب الصوم في يوم لحزنه ومصيبته، وإنّما ورد في يوم الفرح لشرفه وفضيلته، كأيام ولادات الأئمّة المعصومين والأنبياء والمرسلين، التي تنكشف عنهم فيها الكرب وينالون فيها المطالب والاُرب. وهكذا سائر الأيام السعيدة دون أيّام موتهم وأوقات وقوع تلك الآلام بهم وسائر الأيام النكيدة.
حتى إنّه لو اتّفق في اليوم الواحد فرح وتَرح لم يلاحظ في استحباب صومه إلّا سبب الفرح شكراً لما يتجدّد في تلك الأيام من النِعَم، أو دفع النِقَم.
وحيث كان هذا اليوم المشؤوم العبوس ممّا اجتمعت فيه جميع الهموم والغموم والنحوس على جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين والشهداء والصالحين ـ إذ صار فيه عَلَم الإسلام منكوساً ـ كان سعده محاقاً وعذبه زعاقاً، على أنّه سيأتي آنفاً أنّه لم يثبت ورود ما ورد فيه من تلك الفضائل العظام، ولم تتحقّق صحّة ما اُدّعي فيه من المكارم.
ثمّ إنّ الحصر في قوله×: «ولا يكون إلّا شكراً للسلامة» إمّا محمول على الغالب الذي عليه مبنى أكثر الأحكام، فلا ينافيه ما سمعت من استحباب الصيام في سائر الأوقات والأيام التي يحدث فيها ما يقتضي الشكر على تجدّد الإنعام، هذا إن جعلت (اللام) في الصوم جنسيّة أو استغراقيّة؛ أو على الإشارة إلى أصل ابتداء صومه من اُولئك اللئام، إن جعلت عهديّة ذكريّة، فقد يقال بجواز صومه حينئذٍ مع مخالفة تلك النيّة.
إلّا أنّ الظاهر من سياق الخبر الشريف والأثر الطريف ومقتضى ما تضمّنه من الزجر الشديد والوعيد الأكيد هو إرادة المبالغة في الفرار عن صومه من بعيد، وتعليل ذلك بأنّ صومه لمّا كان من سُنَن آل زياد وأتباعهم أهلِ العناد من المخالفين والنُصّاب، ولم تجرِ به سنّة ولا كتاب وكان أصل مشروعيّته عندهم لتلك العلّة العليلة والغاية الملعونة الرذيلة، كان على شيعتهم أن لا يتلبّسوا بما يصدق عليه اسم ذلك الشعار والكيفيّة، ولو بالموافقة الصوريّة، ولم يكتفوا بمخالفة النيّة.
فكان كلّ صوم يقع في ذلك اليوم لتلك الخصوصيّة العاشوريّة يتوهّم منه ذلك الفرد الذي ابتدأ به صيامه ولو اختلفت الطويّة، مبالغةً في المخالفة، وبعداً عن صورة المؤالفة، والله العالم بحقائق مراد خلفائه الأعلام، فتأمّل في هذا المقام فإنّه حريّ بالتأمّل التامّ.
وأمّا ثالثاً: فلإشعار بعض الآثار بوضع ما دلّ من الأخبار على فضيلة ذلك اليوم المقتضية لاستحباب ذلك الصوم، وهو ما رواه الصدوق& في مجالسه مسنداً عن جبلة المكيّة قالت: سمعت ميثم التمّار يقول: «والله لتقتلنّ هذه الاُمّة ابن بنت نبيّها في المحرّم لعشر مضين منه، وليتخذّن أعداء الله ذلك اليوم يوم بركة، وإنّ ذلك لكائن قد سبق في علم الله تعالى ذكره، أعلمُ ذلك لعهد عهده إليّ مولاي أمير المؤمنين×، ولقد أخبرني أنّه يبكي عليه كلُّ شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار، والطير في جوّ السماء، ويبكي عليه الشمس والقمر، والنجوم والسماء والأرض، ومؤمنو الإنس والجنِّ، وجميع ملائكة السماوات ورضوان ومالك وحملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً».
ثمّ قال: «وَجَبَت لعنةُ الله على قتلة الحسين× كما وجبت على المشركين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخراً، وكما وجبت على اليهود والنصارى والمجوس».
قالت جبلة: فقلت له: يا ميثم وكيف يتخذّ الناس ذلك اليوم الذي يقتل فيه الحسين× يوم بركة؟
فبكى ميثم رضي الله عنه ثمّ قال: «سيزعمون بحديث [يضعونه]([4]) أنّه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم×، وإنّما تاب على آدم في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي قَبِل الله فيه توبة داود×، وإنّما قَبِل الله توبته في ذي الحجّة، ويزعمون أنّه اليوم الذي أخرج الله فيه يونس× من بطن الحوت، وإنّما أخرجه من بطن الحوت في ذي القعدة، ويزعمون أنّه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح× على الجودي، وإنّما استوت على الجودي يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، ويزعموم أنّه اليوم الذي فلقَ الله فيه البحر لبني إسرائيل، وإنّما كان ذلك في ربيع الأوّل…» إلى آخره([5]).
وهو صريح في وضع ما ينقل عن الأئمّة الأعلام في شرف ذلك اليوم الموجب لاستحباب الصيام، وهذا الحديث وإن كان منقولاً عن ميثم التمّار من غير اتّصال سنده بالنبيّ أو أحد الأئمّة الأطهار، إلّا أنّ ما هو عليه من الوثاقة والجلالة الظاهرتين ظهور الشمس في رابعة النهار يوجب الاطمئنان، بل القطع بصدق ما ينقله من الآثار.
يتبع…
________________________
([1]) في المخطوط: منذر، وما أثبتناه من المصدر.
([2]) أمالي الطوسي: 667/ 1397، الوسائل 10: 462، أبواب الصوم المندوب، ب 21، ح7.
([3]) التّرح: الهم. القاموس المحيط 1: 444.