الرسالةُ العاشورية (في تحقيق صوم عاشوراء) ـ 05
تأليف: العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي& (ت 1315هـ)
أو نقول: إنّ صوم النبي| إيّاه لم يكن بعنوان صوم عاشوراء، بل لموافقته بعض الأيّام المأمور بصومها كيوم النوروز([1]) مثلاً، أو موافقته عدداً من الأيّام منذوراً.
وأمّا خبر الزهري([2])، فلاشتماله على ما لا يخفى حالهم من مشائخ العامّة وغيرهم من سائر الأشقياء لا ينبغي الاعتماد عليه والركون إليه، إلّا فيما اتّفقت فيه الأخبار، ولم يكن لدليله معارض من الآثار، ولعلّ هذا هو السرّ في عدم الاستدلال به في هذا المضمار، إذ لم أقف على من استدلّ به على هذا الحكم من علمائنا الأخيار مع استدلالهم ببعضه في غيره، فلعلّه لأظهريّته ولو في خصوص هذا الحكم في موافقته أُولئك الأشرار دون سائر تلك الأخبار.
ألا ترى أنّ الصدوق& بعد روايته له في باب وجوه الصيام أورد في باب صوم التطوع صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم([3])، الدالّ على نسخه. وظاهره التنبيه بذلك على عدم العمل به فيما هنالك، فتأمّل فيه، والله العالم.
وأمّا خبر كثير النوّا([4]) ففيه من الوهن ما لا يخفى.
أمّا أوّلاً: فلأنّ قُصارى ما فيه الدلالة على بركاته وفضيلته، وأمر نوح× بصوم ذلك اليوم من معه من خاصّته دون استحباب صومه في دين نبيّنا| وشريعته.
بل لا دلالة فيه أيضاً على استمرار صوم عاشوراء في ملّة نوح وسنّته، لاحتمال أن يُراد بالـمُشار إليه بذلك اليوم خصوص اليوم الذي لزقت فيه السفينة على الجودي، شكراً لنعمة السلامة من الغرق، لا لخصوصيّة عاشوراء الذي شبّ في قلوب المؤمنين الحَرَق.
وأمّا ثانياً: فلأنّ كثير النوّا بتريّ عامّي غوي، تنسب إليه البتريّة اللّئام، وقد تبرّأ منه الصادق× حيث قال×: «اللّهمّ إنّي إليك من كثير النوّا بريء في الدنيا والآخرة»([5]).
وقال× أيضاً: >إنّ الحكم بن عيينة وسلمة وكثير النوّا والتمّار ـ يعني: سالماً ـ أضلّوا كثيراً ممّن ضلَّ من هؤلاء، وإنّهم ممّن قال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾([6])<([7]).
فإذا كان كثير النوّا بهذا الحال كيف يركن إليه في صدق الحديث والمقال؟!
فلم يبق للمشهور إلّا خبر مسعدة بن صدقة([8]) والقدّاح([9])، وهما لا يعارضان تلك الأخبار الكثيرة، الصراح، المشتملة على بعض الصحاح.
وأمّا استدلال بعض الفقهاء الفضلاء بخبر حفص بن غياث عن الصادق× قال: «كان رسول الله| كثيراً ما يتفل يوم عاشوراء في أفواه أطفال المراضع من ولد فاطمة÷ من ريقه، ويقول: لا تطعموهم شيئاً إلى الليل، وكانوا يروون من ريق رسول الله|، قال: وكانت الوحوش تصوم يوم عاشوراء على عهد داود×»([10]).
فهو استدلال عجيب لا ينبغي صدور مثله عن مثله، ولا من لبيب، ولا رسمُهُ في القرطاس وإظهاره بين سائر الناس.
وأمّا ما جمعوا به بينها من حمل أخبار المنع على ما إذا لم يكن للحزن والفضيلة، فجمع بعيد وحمل غير سديد:
أمّا أوّلاً: فللقطع بعلم الأئمّة^ بأنّ الشيعة الكرام لا يتبرّكون بذلك الصيام، فيصير نهيهم لهم حينئذٍ تحصيل حاصل ونفخاً في غير ضرام.
وأمّا ثانياً: فلتصريح الأئمّة^ بعدم قبول ذلك اليوم لماهيّة الصيام، ويكون نفس الصوم موجباً للحشر مع آل زياد، وسائر ما هو مذكور من المهالك، كما أنّ التبرّك أيضاً موجب لذلك، وبأنّ الصوم أيضاً لا يكون للحزن والمصيبة وإنّما يكون شكراً للسلامة، وكلّ ذلك معلوم من تلك الأخبار السابقة التي هي في الدلالة على المطلوب متطابقة.
ففي خبر عبدالملك: «أفصومٌ يكون ذلك اليوم؟! كلّا وربِّ البيت الحرام، ما هو يوم صوم، وما هو إلّا يوم حزن ومصيبة» إلى أنْ قال: «فمن صام أو تبرّك به حشره الله مع آل زياد»([11]).
وهو ظاهر في المراد ظهور الشمس في ساعة الراد، ألا ترى كيف جعل الصيام مُسبِّباً لتلك الأمور العظام ورتّب عليه ذلك الوعيد كما رتّبه على التبرّك بذلك اليوم النكيد؟
فلا يتمّ حينئذٍ تقييد الصوم المنهيّ عنه بالصوم بقصد التبرّك، كما لا يخفى على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
يتبع…
_______________________
([1]) مصباح المتهجد: 790، الوسائل 10: 468، أبواب الصوم المندوب، ب 24، ح1.
([2]) الفقيه 2: 48/ 208، الوسائل 10: 411، أبواب الصوم المندوب، ب 5، ح1.
([3]) الفقيه 2: 51/ 224، الوسائل 10: 459، أبواب الصوم المندوب، ب 21، ح1.
([4]) التهذيب 4: 300/ 908، الوسائل 10: 458، أبواب الصوم المندوب، ب 20، ح5.
([7]) رجال الكشي 2: 509/439، وفيه: (وكثيراً).
([8]) التهذيب 4: 599/ 905، الاستبصار 2: 134/437، الوسائل 10: 457، أبواب الصوم المندوب، ب 20، ح2.
([9]) التهذيب 4: 300/ 907، الاستبصار 2: 134/ 439، الوسائل 10: 457، أبواب الصوم المندوب، ب 20، ح3.
([10]) التهذيب 4: 333/ 1045، وفيه: (وكانت الوحش).
([11]) الكافي 4: 147/7، الوسائل 10: 459، أبواب الصوم المندوب، ب 21، ح2.