وحدة الجماعة ضرورة إسلامية ـ 01
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
قال عزَّ من قائل في كتابه الكريم:
﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبدُونِ﴾([1]) .
مباحث الآية الكريمة
تنطوي هذه الآية على مضامين عالية ذات تعلق كبير بأمر حسّاس وهامّ في حياة المسلمين؛ كونه يماسّ وحدتهم، ويرافق مسيرتهم، ونعني به: التآلف والاجتماع، وتوحيد الصف والجماعة أمام المؤثرات الخارجية التي تهدف جميعها إلى. فتّ عضدهم، ووهن ساعدهم. ولأهمية هذا الأمر، الناشئة من أهمية الهدف الذي ترمي إليه آية المقام الكريمة كان لابدّ من تناول هذا الموضوع بشيء من التوضيح والبيان بقدر ما تقتضيه الفائدة، ويتّسع له الوقت، ولنوفيه بعض حقه على قدر المستطاع إن شاء الله تعالى. وبناء على هذا فإننا سوف نتناول هذه المفاهيم والمضامين العالية التي تنطوي عليها آية المقام الكريمة كلّا ً في مبحث مستقلّ إن شاء الله تعالى.
المبحث الأول: في تحديد مفهوم الأمة
إن آية المقام الكريمة إذ تقول: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ﴾ فإنها تريد من هذا التعبير: الجماعة التي تنضوي تحت عقيدة واحدة أو مبدأ واحد وإن تعدّدت أعراقها ودماؤها، وأطيافها وفصائلها، بل حتى طوائفها. فالأمة المقصودة في هذه الآية الكريمة هي الأمة الإسلامية التي ينبغي على كل مسلم غيور على دينه أن يحافظ عليها وعل وحدتها بغضّ النظر عن هوية المسلمين وانتماءاتهم العرقية والدموية، أو انتماءاتهم الطائفية والعقيدية. وهذا الأمر قد تعرض لكثير من المعرقلات، والمحاولات الخبيثة التي سعت إلى زعزعته ونزعه؛ حيث كانت هنالك محاولات عدّة وكثيرة للنيل من هذه الوحدة المباركة. وهذا ما سنراه مفصّلاً إن شاء الله تعالى قدر الإمكان من خلال الأبحاث الشريفة التالية:
البحث الأول: الشيعة وفرية الشعوبية
ذكرنا أن الوحدة الإسلامية قد تعرضت إلى الكثير من محاولات العرقلة والزعزعة، بل محاولات الإطاحة بها من بعض ذوي النفوس المريضة أو المأجورين الذين يسعون بدفع وتمويل خارجيين إلى تحقيق هذا الهدف وهو هدم الوحدة الإسلامية، وفتّ عضدها، والنيل من صفّها. وهذا الأمر يتجلى على مستويات عدة نذكر من باب الشاهد لا الحصر منها:
الأول: رمي بعض طوائف أهل الدين والملة بالكفر
إن أبناء بعض المذاهب الإسلامية لا يتورعون عن أن يكفّر بعضهم البعض، أو يرموهم بالتهم التي من شأنها ـ فيما لو كانت كذلك ـ إخراج هؤلاء عن ربقة الإسلام، وانفكاكهم عن الدين.
موقف بعض المذاهب الإسلامية من الشيعة
نعم، إن البعض من أبناء المسلمين لا ينفكون يرموننا نحن الشيعة الإمامية بأبشع التهم، ولا يتوانون عن أن يجترئوا علينا بدعاوى باطلة قوامها التحكّم، ما أنزل الله تعالى بها من سلطان. ومن هذا أننا أناس شعوبيون. والشعوبية تعني أن الإنسان المسلم يفضل قوميته على دينه أو على أبناء دينه من أبناء القوميات الأخرى([2]).
زيارة الإمام الحسين السبط× دليل شعوبيتنا
ومثال هذا أن بعض هؤلاء يدعون أننا إذ نقول في الزيارة المباركة: «فَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً قَتَلَتْكَ، وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً ظَلَمَتْكَ، وَلَعَنَ اللّٰهُ امَّةً سَمِعَتْ بِذٰلِكَ فَرَضِيَتْ بِهِ. وَلَعَنَ اللَّهُ أُمَّةً اسْتَحَلَّتْ مِنْكَ الْمَحَارِمَ، وَانْتَهَكَتْ فِيكَ حُرْمَةَ الْإِسْلَامِ»([3])، فإننا إنما نلعن أمة العرب، وهذا یعني أنا اُناس شعوبیون. غیر أن هذا الکلام في واقع الأمر غير صحيح، بل هو تقوّل، بل إنه ادّعاء عارٍ عن الصحة تماماً، ويفتقر إلى الدليل والبرهان، بل إنه دعوى ينكرها الواقع والوجدان. وهو ما سنلاحظه إن شاء الله فيما تبقى من هذا البحث.
إذن هؤلاء يدّعون علينا كذباً وزوراً وبهتاناً، ويفترون علينا بأننا نفضل اُمة اُخرى غير الأمة العربية على أمة العرب، وهو ادّعاء يلزم صاحبه بأن يأتي بالدليل والبرهان عليه، ولات حين دليل أو برهان يثبت هذا.
الرد على هذه الفرية
وهذه الفرية يمكن مناقشتها، والرد عليها، ودحضها تماماً عن طريق أمرين:
الأول: تحديد المفهوم الصحيح للأمة
ذكرنا فيما مضى أن مفهوم الأمة ينطبق على الجماعة من الناس الذين يجمعهم عامل مشترك واحد هو المبدأ، أو الدين، أو العقيدة دون لحاظ أي اعتبار آخر من اعتبارات الدم، أو العرق، أو الانتماءات الأخرى. وهذا الرأي الذي نقوله يذهب إليه غالب المفسرين الذين يشيرون إليه في كتبهم وتفاسيرهم([4]). إذن فالمراد بالأمة: الجماعة التي تندكّ تحت عنوان جامع هو عنوان الإسلام، فيقال مثلاٌ: الأمة الإسلامية، فهل يعقل أحد أننا نسب ونلعن أهل ملة الإسلام، وجميع من أسلم؟ إن هذا لا يمكن أن يقبله عاقل، ولا يقرّ به إنسان ملتزم يحترم علمه وقلمه أبداً.
الثاني: أن القول بشعوبية الشيعة يستلزم سبهم قادتهم
ثم إن من المعلوم أن أول من أسلم هو رسول الله|، وأهل بيته^، فإن تنزلنا وقلنا: إن هذا الذي تذهبون إليه هو الصحيح ـ أي أن الأمة يقصد بها الأمة التي تنتمي إلى عرق أو إلى دم دون أن تنتمي إلى مبدأ أو عقيدة ـ فإن هذا يستلزم أننا نسب نبيّنا الأكرم محمداً|، وأئمتنا وقادتنا وذادتنا، ونتوجه إليهم باللعن؛ كونهم من المسلمين، بل أول من أسلم (تنزهت ساحة قدسهم عن ذلك)، فهل يعقل هذا عاقل؟
وبيان هذا لا يحتاج إلى إعمال فكر أو مزيد بيان، بل إنه أمر واضح غاية الوضوح؛ ذلك أنه ليس هنالك من رجل يدعي أن علي بن أبي طالب× أو رسول الله| أو فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) أو الأئمة الطاهرين من أبنائهم هم ليسوا عرباً، بل إن كل من له أدنى مسكة من عقل يقول بأن هؤلاء^ كلهم من العرب.
ولازم هذا كما ذكرنا أننا إنما نتوجه إليهم باللعن، وهذا لا يقول به شيعي؛ إذ إنه يؤدي إلى نقض الدعوى من أساسها؛ كون أن هذه الدعوة مبتنية على تفضيل الشيعة لأئمتهم وأئمتهم ينتمون إلى أمهات فارسيات أو أعجميات كما هو الحال مع بعضهم (سلام الله عليهم). إذن القول بهذا يستلزم نفي المذهب كله لأنه قول يعني نفي المذهب بتوهين قادته. ومن هذا نخلص إلى أن الأمة المرادة في آية المقام الكريمة وفي المفهوم الإسلامي هي الأمة الإسلامية، وأن الأمة التي حث الإسلام على ضرورة توحدها وجمع أمرها ورص صفوفها هي الأمة الإسلامية لا الأمة العربية أو الأمة الفارسية أو غيرهما من الأمم.
استنتاج
ومن هذا نخلص إلى أننا طائفة لا نرى مبدأ الشعوبية، ولا نقول به، بل إننا أناس ملتزمون بالإسلام وتعاليمه الشريفة، وبالقرآن وأحكامه الحنيفة، وقواعده المنيفة.
يتبع…
________________________
([2]) إن فكرة تفضيل شعب على شعب، وجنس على جنس، وعرق على عرق لا للتقوى كما هو المعيار المعتمد عندنا وفق تعاليم الكتاب الكريم القرآن لهي ظاهرة غريبة عن مجتمعنا الإسلامي، وحالة طارئة عليه. ولهذا يرى بعض الباحثين والدارسين أن بني اُمية هم أول من بذر بذرة الشعوبية، بل هم الرائد الأول والرئيس في تعاهدها ورعايتها حتى أخذت في التأصل والنمو، وراحت تؤتي ثمارها الخبيثة فيه، يقول الآلوسي: «الشعوبية فرقة من الناس تذهب إلى تحقير شأن العرب، ولا ترى لهم فضلاً على غيرهم… ومن الناس من يفضل بعض أنواع العجم على العرب، ومنهم أبو عبيدة، وكان يرى رأي الخوارج، وقد ألّف كتاباً في مثالب العرب. ومنهم ابن غرسية، وله رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب…وكتاب مثالب العرب أصله لزياد بن أبيه؛ فإنه لما ادّعى أبا سفيان أباً، علم أن العرب لا تقرّ له بذلك مع علمهم بنسبه؛ فعمل كتاب المثالب، وألصق بالعرب كل عيب وعار وباطل، وإفك وبهت…». بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب 2: 159 ـ 160.
([3]) انظر: المزار (المفيد): 124، مصباح المتهجد: 721، المزار الكبير (المشهدي): 391، الإقبال بالأعمال الحسنة 1: 333، 2: 63.
([4]) التبيان 7: 277، مجمع البيان 7: 99، أنوار التنزيل و أسرار التأويل 4: 60، التفسیر الکبیر 22: 183، وغیرها کثیر.