دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 17

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

المبحث السادس: جريمة الأمويين في تجويع أطفال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

 إن صوت المعدة هذا حينما يعلو من إنسان كبير فإنه لا يتمكن معه من التفكير كما أشرنا ولا من قبول النصح والتحذير أو الإرشاد والوعظ، فالكبير حينما يرتفع صوت معدته فإنه يغلب على كل صوت عنده سواء كان صوت العقل أو صوت المنطق أو صوت الروح أو النفس وما إلى ذلك، وهذا يعني أن الجوع أمر قاتل لا يتمكن الإنسان معه من أن يفكر بشيء، وإن فكر فإنه لا يفكر به بشكل صحيح أبداً.

وإذا كان الأمر كذلك مع الكبير فما بالك به مع الطفل الصغير؟ إن الصغير كما نعرف ليس عنده صبر ولا قابلية تحمل على الجوع أبداً، ولهذا فإنه لابد من توفير الطعام له متى ما أحس بالجوع؛ لأنه لا صبر عنده عليه. لكن الأمويين قد ارتكبوا أكبر جريمة في التاريخ حينما قادوا سبايا الإمام الحسين× إلى الشام وهم يمنعون عنهم الطعام والشراب، فأعاشوهم أجواء من الخوف، وحالات من التجويع والتعطيش التي لا يرتكبها ولا يفعلها إلّا من فقد خصائصه الإنسانية التي تضفي عليه طابعها كإنسان،  وتحول إلى وحش كاسر معها.

إن التاريخ يحدثنا أن أزلام الاُمويين وأذنابهم في رحلة السباء الجائرة هذه كانوا يقدمون لكل طفل وامرأة في اليوم الكامل رغيفاً واحداً من الخبز فقط وشيئاً يسيراً من الماء. وكان هذا المقدار من الطعام والشراب لا يكفيهم ولا يسد ولو جزءاً يسيراً من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار حرارة الجو فإن ما كانوا يقدمونه لهم من ماء لا يغنيهم عن الظمأ الشديد، وكذلك الحال مع رغيف الخبز هذا الذي لم يكن ليسمن، ولا ليغني من جوع، ولا يسد لهم حاجة أبداً. ولهذا فإن هؤلاء الأطفال كانوا غالباً ما يلجؤون إلى عمتهم العقيلة زينب÷، أو إلى غيرها من نساء الركب، فيقمن بإعطائهم حصصهن من الطعام والشراب كلها، أو القسم الأكبر منها؛ حتى يقاربوا الشبع والارتواء، ثم يبتن هن طاويات جائعات ظامئات.

وكانت السيدة العقيلة زينب÷ تبقى اليومين والثلاثة طاوية لا تأكل ولا تشرب؛ لأنها كانت تتبرع بحصتها لأطفال رسول الله|. وكانت نتيجة هذا الجوع والعطش قد أصابها الضعف والوهن حتى إنها كانت تصلي صلاة الليل وهي جالسة، وقد تنبه لها الإمام السجاد× وقد نظر إليها ليلة، فوجدها تصلّي من جلوس، فقال لها: «يا عمة، هذا خلاف عادتك، فأنت صلّيت واقفة حتى في الليلة الحادية عشرة من المحرم؟». قالت: «يابن الأخ، من الضعف الذي ألمّ بي»:

شصار بأهالينا ونسونه***بديار غربة ضيّعونه

نشكي التعب ما يرحمونه

 وهذا المعنى المؤثّر والمحزن الذي كانت سيدتنا العقيلة زينب÷، والهاشميات يعشنه يرسمه لنا السيد حيدر الحلي (رضي الله عنه) في لوحة أدبية بقوله:

خذي يا قلوب الطالبيّين قرحة *** تزول الليالي وهي دامية القرفِ

فإن التي لم تبرح الخدر اُبرزت *** عشية لا  كهف فتأوي إلى كهفِ

لقد رفعت عنها يد القوم سجفها *** وكان صفيح الهند حاشية السجفِ

وقد كان من فرط الخفارة صوتها ** يغضّ فغضّ اليوم من شدّة الضعفِ([1])

 فكانت÷ قد عاشت تلك الأيام مع هذا الضعف والوهن الذي ألم بها، والذي أثّر عليها بقية حياتها الشريفة حتى أسلمت الروح الطاهر لربها القادر راضية مرضية مطمئنة. وكل ذلك نتيجة عدم أخذها كفايتها من الطعام والشراب بعد أن تجود به لاُولئك الصبية؛ إذ لم يكونوا يأخذون كفايتهم من ذلك الطعام والشراب نتيجة المواقف الخبيثة التي كان يقفها بنو أمية منهم كما ذكرنا.

وهكذا تحملت كل ذلك الألم وتلك المعاناة وثقلها حتى عادت إلى المدينة المنورة ومعها ذلك اللفيف من الأطفال واليتامى والأرامل الذين أخذت بيدهم إلى دار النبوة، والتي حينما دخلتها رأتها خالية من أهلها، فراحت تدور فيها تقلب الطرف بين جدرانها فلا ترى إلّا ذكريات قد عاشتها في هذا البيت مع أبيها وأمها وأخويها.

افتحي لها؛ فإنها شريكتنا في العزاء

يقول أحد المؤرخين: إن اُخت الإمام الحسين× العقيلة زينب÷ لمّا أرادت أن تندب قتلاها في مدينة جدّها|، أوقفت جارية لها على باب الدار، وأمرتها  ألاّ تدخل عليهن امرأة؛ فإنهن ـ أي الفاطميات ومسبيّات الطفّ ـ يردن أن يندبن قتلاهن.

وبينما هنّ كذلك  وإذا  بالباب تطرق، فقالت الجارية: من على الباب؟ فعلمت أنها  اُم البنين÷، فجاءت إلى السيدة زينب÷ وقالت : سيدتي إن على الباب اُم البنين. فقالت لها زينب÷: « ويْحك  افتحي لها؛ فإنها شريكتنا في العزاء»:

گومن يالفواطم فتحن الباب *** وتلگّن شريچتنه بالمصاب

وصاحت صوت يا فگد الاطياب *** واللّه شموحشچ يا دار الاحباب

هناك وتسمع الصرخه على الباب *** أنا  ام عباس جيتچ لا تفترين

بچت زينب وصاحت تلگّنها *** بالله وياي گومن ساعدنها

هاي اُم البنين الراح منها *** أولاد اربعه خوتي الميامين

فلما دخلت اُم البنين ÷ إلى عزاء العقيلة والفاطميات، ووقع نظر إحداهما على الاُخرى، صاحت÷: وا والداه، وا حسيناه. فأجابتها العقيلة زينب÷:  وا  أخاه، وا  عبّاساه:

بعد هيهات دهري بيكم يعود *** أرد اشيل راسي بيكم ردود

* * *

بالأمس كانوا  معي واليومَ قد رحلوا *** وخلّفوا  في سويدا  القلب نيرانا

نذر علي لئن عادوا  وإن رجّعوا *** لأملأن طريقَ الطفّ ريحانا([2])

_________________________

([1]) ديوان السيد حيدر الحلي 1 : 39 .

([2]) شجرة طوبى 1: 91 .

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة