الرسالةُ العاشورية (في تحقيق صوم عاشوراء) ـ 04
تأليف: العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي& (ت 1315هـ)
ومنها: ما هو ظاهر في الكراهة من دون احتمال التحريم، وهو خبر زرارة، عن أبي جعفر، وأبي عبدالله’ قالا: «لا تصم يوم عاشوراء، ولا عرفة بمكّة، ولا في المدينة، ولا في وطنك، ولا في مِصرٍ من الأمصار»([1]).
أقول: وإنّما جعلنا هذا الخبر ممّا ظاهره الكراهة فقط، لجمعه مع صيام عرفة الذي لا قائل فيه بالتحريم، فيكون ذلك قرينة على صرف النهي عن حقيقته.
وأمّا خبر جعفر بن عيسى، السابق، فلا مانع فيه من احتمال التحريم إلّا اشتماله على صوم الاثنين الذي قد تمتنع مانعيّته بالتزام التحريم، كما ذهب إليه ابن الجُنيد([2]) وبعض مشائخنا المتأخّرين([3])، وإن كان الاستحباب هو الذي عليه جلّ الأصحاب.
ومن هذا القسم ما أرسله المحقّق الشيخ علي في حاشية الإرشاد عن الصادق×، حيث قال ـ بعد قول الماتن: (وعاشوراء حزناً)([4]) ـ: «الأفضلُ فيه الإمساك مع النيّة إلى العصر، ثمّ يفطر بعد ذلك، كما بيّنه في (التذكرة)([5]) وغيرها([6]) لقول الصادق×: «صومُهُ مكروهٌ»».
أقول: هذا اللفظ للصادق× وإن لم أقف عليه في شيءٍ من الأخبار ولا على من نقله من نقلةِ الآثار، إلّا أنّ نقله إيّاه على جهة البتِّ والجزم، فلا يقصر عن سائر المراسيل لما هو عليه من الوثاقة والمقام الجليل.
ولعلّه أراد نقل تلك الأخبار بمعناها بعد جعل الكراهة هو مؤدّاها.
فهذا جملةُ ما وقفتُ عليه من أخبار الباب الواردة عن الأئمّة الأطياب ـ مضافاً إلى ما سيأتي من صحيحتي عبد الله بن سنان ومعاوية بن وهب، المرويّة اُولاهما في المصباح والإقبال، وثانيتهما في المنتخب ـ وهي كما ترى مختلفة الدلالة غير متطابقة المقالة، ولاختلافها اختلفت كلمة الأصحاب.
فالمشهور بينهم استحباب صومه حزناً على ذلك المصاب لا شماتةً وشكراً، كما هو سنّة اُولئك النُصّاب، ونفى عنه في (الجواهر) الخلاف([7])، وظاهر عبارة السيّد بن زهرة في (الغنية) حصول الإجماع([8]).
إلّا أنّهما ممنوعان غايةَ المنعِ؛ لشيوع الخلاف والنزاع.
واحتجّوا على ذلك بالجمع بين الأخبار الآمرة بصيامه، وبين الأخبار الاُخرى الناهية عن الحَوْم حولَ خيامه، بحمل الاُولى على الصوم الحزن والفضيلة، والثانية على جعل صومه للشماتة والشكر وسيلة اقتداء بفعل تلك الثلّة الرذيلة.
وهذا الجمع للشيخ المفيد([9])، وتبعه عليه تلميذه شيخ الطائفة في كتابي الأخبار وعوّل عليه أيضاً في نهايته([10]).
قال في التهذيب والاستبصار بعد إيراده لتلك الأخبار: «فالوجه بين هذه الأخبار ما كان يقوله شيخنا&، وهو أنّ من صام يوم عاشوراء على طريق الحزن بمصائب آلِ محمّد| والجزع لما حلَّ بعترتِه فقد أصاب، ومن صامه على ما يعتقد فيه مخالفونا من الفضل في صومه والتبرّك والاعتقاد لبركته وسعادته فقد أثِمَ وأخطأ»([11]) انتهى.
ثمّ وافقهما أكثر المتأخّرين عنهما([12]).
وجزم جمع من المتأخّرين بالتحريم والنهي عن صومه مطلقاً([13])، والتأثيم، حملاً للأخبار الآمرة على التقيّة، إذ هي أقوى الأسباب الناشئة عنها تلك البليّة، وللأخبار الناهية على ما هو ظاهر أكثرها من تحريم صومه مطلقاً، لأنّه شعارُ بني اُميّة.
وجنح الباقون للكراهة([14])، حملاً للنهي عليها، لعدم نهوض أخباره بالتحريم فيها، خصوصاً مع ظهور بعضها فيها، حيث اشتملت على جمعه مع صوم الاثنين وعرفة، الذي قيل: إنّه لا قائل فيه بالتحريم من معتبري الفرقة المحقّة المشرّفة.
وأقول ـ مستمدّاً من سيبِ الكريمِ المنّان ـ: لا يخفى على من سرّح بريد نظره الثاقب بتدبّرٍ وإمعانٍ أنّ ما جنح إليه المشهور منهدمُ الأركان مُتداعي البنيان.
وأمّا ما استُدِلَّ به لهم من نفي الخلاف ومنقول الإجماع، والأخبار، فهو من الضعف بمكان:
أمّا الأولان، فلما لا يخفى على من رقى ذُرى العِرفان من شُيوع الخلاف في سائر الأزمان على وجه ينتفي فيه مناط الحجيّة الذي هو الكشف عن قول المعصوم سيّد البريّة.
وأمّا الأخبار، فالجواب عنها:
إمّا إجمالاً، فلمعارضتها بما هو أقوى عمداً، وأكثرُ عدداً، وأصحُّ سنداً، وأبعدُ عن مذاهب أهلِ الخلاف أمداً، وقد تكثّرت الأخبار عن الأئمّة الأطهار في بيان ميزان الترجيح والمعيار باطّراح ما وافق اُولئك الأشرار، معلّلاً في كثير منها بـ «أنّ الرشد في خلاف اولئك الفجّار»([15]) وحيث قد وافقت هذه الأخبار مذهبهم سقطت عن درجة الاعتبار.
وإمّا تفصيلاً، فأمّا خبر أبي همّام([16])، فلأنّ قُصارى ما فيه إخبار أبي الحسن× عن صيام رسول الله| إيّاه في الجملة، فهو قضيّة مهملة وواقعة غير مفصّلة، فلعلّ صومه إيّاه كان قبل نسخه بنزول شهر رمضان لا مستمرّاً في جميع الأزمان.
وقد سمعتَ دلالة صحيح زرارة، ومحمد بن مسلم([17])، وخبر [نجبة]([18]) بن الحارث([19]) على ترك صومه بعد ذلك، وبدعيّته هنالك.
فتجتمع هذه الأدلّة وتزول تلك العلّة، لتضمّن خبر أبي همّام مشروعيّته سابقاً، ولتضمّن هذين الخبرين ترك صومه لاحقاً، لما ورد من أنّ «أمر النبيّ| يجري فيه النسخ كالقرآن»، كما في خبر سليم بن قيس الهلالي المروي في (الكافي)، و(الخصال)، و(الاحتجاج)، و(غيبة النعماني) المشتمل على سبب اختلاف الأحاديث النبويّة وعدَّ منها النسخ، حيث قال فيه: «ورجل سمع من رسول الله| شيئاً أمر به ثمّ نهى عنه، وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ». إلى أن قال×: «فإنّ أمرَ النبي| مثل القرآن ناسخ ومنسوخ»([20]).
ومثله ما رواه في الكافي، عن محمّد بن مسلم عن الصادق×، حيث قال في آخره: «إنّ الحديث يُنسَخ كما يُنسخ القرآن»([21]).
وحينئذٍ فلا دلالة لهذا الخبر على الاستمرار فاعتبروا يا اُولي الأبصار.
يتبع…
___________________________
([1]) الكافي 4: 146/3، التهذيب 4: 300/909، الاستبصار 2: 134/440، الوسائل 10: 462، أبواب الصوم المندوب، ب 21، ح6.
([2]) المختلف 3: 505، فتاوى ابن الجنيد: 115.
([8]) الغنية (الجوامع الفقهية): 511.
([9]) المقنعة (سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) 14: 366 ـ 367.
([11]) التهذيب 4: 302، الاستبصار 2: 135.
([13]) جامع المقاصد 3: 86، مسالك الأفهام 2: 78، الحدائق الناضرة 13: 376.
([14]) مجمع الفائدة والبرهان 5: 189، كشف الغطاء: 324، جواهر الكلام 17: 108.
([15]) الكافي 1: 8 / خطبة الكتاب، والوسائل 27: 112، أبواب صفات القاضي، ب 9، ح19.
([16]) التهذيب 4: 299/ 906، الاستبصار 2: 134 / 438، الوسائل 10: 457، أبواب الصوم المندوب، ب 20، ح1.
([17]) الفقيه 2: 51/ 224، الوسائل 10: 459، أبواب الصوم المندوب، ب 21، ح1.
([18]) في المخطوط: نخبة، وما أثبتناه من المصدر.
([19]) الكافي 4: 146/4، التهذيب 4: 301/ 910، الاستبصار 2: 134/411، الوسائل 10: 461، أبواب الصوم المندوب، ب 21، ح5 وقد ورد في الثلاثة الأخيرة: نجية.
([20]) الكافي 1: 62/1، الخصال: 256/131، الاحتجاج 1: 630، ولم يذكر فيه ذيل الحديث، غيبة النعماني: 79/10.