الخضر أم القدر
هل توقفت يوماً لتتسائل عن سيدنا الخضر×؟
هل هو نبي أو ولي أو عالم أم ماذا؟
هل انتابتك الدهشة لهذا الذي جعله الله أكثر علماً وحكمة ورحمة من نبي مرسل؟
اتساءلت يوماً لماذا كل هذا الإصرار أن يصل سيدنا موسى× لبلوغ المكان الذي سيلاقي فيه سيدنا الخضر× ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً﴾.
و لماذا سيدنا موسى تحديداً الذي قدر له من بين جميع الأنبياء والرسل أن يقابل سيدنا الخضر الأكثر علماً ورحمة.
هل لأن موسى× أكثر الرسل اقتراباً من الطبيعة البشرية وما يعتريها من الضعف والخوف والقتل الخطأ و التساؤل والفضول والتلعثم والغضب الشديد والأسئلة الفلسفية ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾، ربما.
لكن الأكيد أن هذه القصة تحديداً تختلف تماماً عن كل القصص، قصة موسى والعبد الصالح لم تكن كغيرها من القصص، لماذا؟
لأن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب، وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي، إنما نحن في هذه القصة أمام علم من طبيعة أخرى غامضة أشد الغموض.. علم القدر الأعلى علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة، كما أسدلت على مكان اللقاء وزمانه، وحتى الاسم ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾، هذا اللقاء كان استثنائياً؛ لأنه يجيب على أصعب سؤال يدور في النفس البشرية، منذ خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض، وما عليها.. سؤال…
لماذا خلق الله الشر والفقر والمعاناة والحروب والأمراض؟ لماذا يموت الأطفال في سورية؟ لماذا يموت الأطفال جوعاً في أفريقيا؟
كيف يعمل القدر
البعض يذهب إلى أن العبد الصالح لم يكن إلا تجسيداً للقدر المتكلم لعله يرشدنا ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾..
أهم مواصفات القدر المتكلم أنه رحيم عليم، أي أن الرحمة سبقت العلم.
فقال النبي البشر (موسى×): ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾.
يرد القدر المتكلم (الخضر×): ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾، ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾.
فهم أقدار الله فوق امكانيات العقل البشري، ولن تصبر على التناقضات التي تراها.
يرد موسى بكل فضول البشر: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾.
يرد القدر (الخضر×): ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾.
هنا تبدأ أهم رحلة توضح لنا كيف يعمل القدر؟
يركبا في قارب المساكين فيخرق الخضر القارب.. تخيل المعاناة الرهيبة التي حدثت للمساكين في القارب المثقوب.. معاناة، ألم، رعب، خوف، تضرع.. جعل موسى البشري يقول ﴿قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً﴾.. عتاب للقدر كما نفعل نحن تماماً.. أخلقتني بلا ذرية كي تشمت بي الناس؟ أفصلتني من عملي كي أصبح فقيراً؟ أزحتني عن الحكم ليشمت بي الأراذل؟ يارب لماذا كل هذه السنوات في السجن؟ يارب أنستحق هذه المهانة؟
﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾ ألم أقل لك أنك أقل من أن تفهم الأقدار؟ ثم يمضيا بعد تعهد جديد من موسى بالصبر..
يمضي الرجلان.. ويقوم الخضر الذي وصفه ربنا بالرحمة قبل العلم بقتل الغلام.. ويمضي.. فيزداد غضب موسى× النبي الذي يأتيه الوحي.. ويعاتب بلهجة أشد..
﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾
تحول من إمراً إلى نكراً
والكلام صادر عن نبي أوحي إليه.. لكنه بشر مثلنا.. ويعيش نفس حيرتنا.. يؤكد له الخضر مرة أخرى ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾
ثم يمضيا بعد تعهد أخير من موسى كليم الله بأن يصمت ولا يسأل..
فيذهبان إلى القرية فيبني الخضر الجدار ليحمي كنز اليتامى..
وهنا ينفجر موسى.. فيجيبه من سخره ربه ليحكي لنا قبل موسى حكمة القدر.. ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾
هنا تتجلى حكمة الإله والتي لن تفهم بعضها حتى يوم القيامة..
الشر نسبي.. و مفهومنا كبشر عن الشر قاصر.. لأننا لا نرى الصور الكاملة..
القدر أنواع ثلاث
فما بدا شراً لأصحاب القارب اتضح أنه خير لهم وهذا هو النوع الأول:
شراً تراه فتحسبه شراً، فيكشفه الله لك أنه كان خيراً و هذا نراه كثيراً في حياتنا اليومية، وعندنا جميعاً عشرات الأمثلة عليه.
النوع الثاني: مثل قتل الغلام.. شراً تراه فتحسبه شراً .. لكنه في الحقيقة خير.. لكن لن يكشفه الله لك طوال حياتك.. فتعيش عمرك وأنت تحسبه شراً..
هل عرفت أم الغلام حقيقة ما حدث؟
هل أخبرها الخضر؟
الجواب لا .. بالتأكيد قلبها انفطر وأمضت الليالي الطويلة حزنا على هذا الغلام الذي ربته سنيناً في حجرها ليأتي رجل غريب يقتله ويمضي.. وبالتأكيد.. هي لم تستطع أبداً أن تعرف أن الطفل الثاني كان تعويضاً عن الأول.. وأن الأول كان سيكون سيئاً ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾.. فهنا نحن أمام شر مستطير حدث للأم.. ولم تستطع تفسيره أبداً.. و لن تفهم أم الغلام أبداً حقيقة ما حدث إلى يوم القيامة..
نحن الذين نمر على المشهد مرور الكرام لأننا نعرف فقط لماذا فعل الخضر ذلك؟
أما هي فلم ولن تعرف..
النوع الثالث من القدر وهو الأهم: هو الشر الذي يصرفه الله عنك دون أن تدري لطف الله الخفي..
الخير الذي يسوقه لك الله ولم تراه ولن تراه ولن تعلمه..
هل اليتامى أبناء الرجل الصالح عرفوا أن الجدار كان سيهدم؟ لا.. هل عرفوا أن الله أرسل لهم من يبنيه؟ لا.. هل شاهدوا لطف الله الخفي.. الجواب قطعاً لا.. هل فهم موسى السر من بناء الجدار؟ لا..
فلنعد سويا إلى كلمة الخضر (القدر المتكلم) الأولى: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾.
لن تستطيع أيها الإنسان أن تفهم أقدار الله.. الصورة أكبر من عقلك..
استعن بلطف الله الخفي لتصبر على أقداره التي لا تفهمهما.. ثق في ربك فإن قدرك كله خير.. وقل في نفسك.. أنا لا أفهم أقدار الله.. لكنني متسق مع ذاتي ومتصالح مع حقيقة أنني لا أفهمها.. لكنني موقن كما الراسخون في العلم أنه كل من عند ربنا.. إذا وصلت لهذه المرحلة.. ستصل لأعلى مراحل الإيمان.. الطمأنينة.. وهذه هي الحالة التي لا يهتز فيها الإنسان لأي من أقدار الله.. خيراً بدت أم شراً.. ويحمد الله في كل حال.. حينها فقط.. سينطبق عليك كلام الله ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ حتى يقول.. ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾
ولاحظ هنا أنه لم يذكر للنفس المطمنئة لا حساباً ولا عذاباً..
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا. انتهى.