الرسالةُ العاشورية (في تحقيق صوم عاشوراء) ـ 02
تأليف: العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي& (ت 1315هـ)
وقيل: إنّ عاشوراء هو التاسع، ونسب إلى ابن عبّاس في أحد النقلين عنه([1])، بجعله مأخوذاً من العِشر ـ بالكسر ـ في أوراد الإبل في قول العرب: وردت الإبل عشراً، إذا وردت اليوم العاشر أو التاسع.
ولعمري إنّه تأويل لا داعي إليه ولا وجه له يُعَوَّل عليه، لمخالفته القوانين القطعيّة والقواعد الكلّيّة من وجوب حمل الألفاظ على ظواهرها الحقيقيّة ومداليلها الظاهريّة، إلّا أنْ يمنع من ذلك وجود إحدى الصوارف من القرائن الحاليّة أو المقاليّة، ومدافعته لما نصّ عليه في الأحاديث المتكثّرة والتواريخ المعتبرة: من أنّ العاشوراء هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين الطاهر، والفرخ الزاهر([2])، مع ضميمة الإجماع نصّاً وفتوىً: على أنّ ذلك اليوم هو خصوص اليوم العاشر([3]).
نعم سيأتي في بعض أخبار المسألة إطلاق العاشوراء على التاسع أيضاً كما في خبر مسعدة بن صدقة، حيث قال× فيه: «صُوموا العاشوراء التاسع والعاشر»([4]).
إلّا أنّ قُصَارى ما فيه إطلاقه عليه والاستعمال فيه، والاستعمال هنا أعمّ من الحقيقة، فلا دلالة فيه على أنّ عاشوراء هو خصوص التاسع كما هو المدّعى، بل اُطلق عليه مجازاً لعلاقة المجاورة كجري الميزاب لمجاورته الماء في وجه، وكإطلاق الراوية على ظرف الماء لمجاورته الراوية التي يُحمل عليها الماء من الدوابّ الثلاث.
أو لمشابهته له في الصفة، ومشاركته إيّاه في الحكم كما يقال: الفقاع خمر، والطواف بالبيت صلاة، والرجل الشجاع أسد، حيث شابه كلّ منهما الآخر في الصفة، أو شاركه في كثير من الأحكام، وإن غايره في بعضها، فالتاسع لمّا شارك العاشر وشابهه في العصائب العظام والرزايا الجسام، اُطلق عليه اسمه، كما يقال: كلّ يوم من الأيام عاشوراء، قال البوصيري في الهمزيّة:
كلّ يومٍ وكلّ أرضٍ لكربي *** منهم كربلا وعاشوراء
هذا… وقد اشتمل لفظ الحديث المذكور على إشكال ظاهر لا مدفع له بحسب الفهم القاصر والفكر الفاتر، وهو أنّ إطلاق العاشوراء على التاسع والعاشر وإرادتهما منه معاً لهما من باب الإطلاق الحقيقي فيهما معاً، أو الحقيقي في أحدهما والمجاز في الآخر.
وأيّاً ما فالإشكال ظاهر للزوم استعمال المشترك في أكثر من معنىً على الأوّل، واستعمال اللفظ في معنَيَيْه؛ الحقيقي والمجازي على الثاني.
اللَّهمّ إلّا أن يتكلّف فيه بالتأويل وإخراجه عن هذا السبيل، أو يلتزم بأحد الوجهين، ويكون هذا الحديث دليلاً للمجوّزين في المسألتين لانتفاء الائتلاف فيهما والاجتماع، وانتشار سبب الاختلاف والنزاع، والله العالم.
وأمّا ما في حديث مناجاة موسى على نبيّنا وآله وعليه السلام، من تفسير العاشوراء بالبكاء والتباكي على سبط محمّد| والمرثيّة والعزاء على مصيبة ولد المصطفى، فلا ينافي ما قدّمناه من أنّ المراد به نفس اليوم العاشر؛ لأنّ تفسيره في حديث المناجاة من باب المجاز لا الحقيقة، تسمية للحالّ باسم المحلّ؛ لأنّ الحالّ والمحلّ قد يسمّى أحدهما باسم الآخر، كما في إطلاق الرحمة على الجنّة في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾([5]).
وإطلاق القرية على أهلها في قوله سبحانه: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾([6]) في أحد الوجهين، وكتسمية المجلس بحُضَّارِهِ، وبالعكس، وهو باب واسع المجال مطّرد في جميع المحال.
وفي آخر الحديث ما يدلّ على ما قلناه، ويؤيّد ما ذكرناه، حيث قال تعالى شأنه: «وعزّتي وجلالي، ما مِن رجل أو امراة سال دمع عينَيْهِ في يومِ عاشوراء أو غيره، قطرة واحدة إلّا وكتبتُ له أجرَ مائة شهيد»([7]). انتهى.
وهو نصٌّ في أنّ المراد بالعاشوراء خصوص ذلك اليوم المشؤوم والوقت المعلوم.
وأمّا قوله تعالى: «يا موسى ما مِن عبدٍ من عبيدي في ذلك الزمان، بكى أو تباكى أو تعزّى على ولد المصطفى»([8])… إلى آخره.
فيحتمل أنّ المراد بذلك الزمان خصوص اليوم العاشر، ويحتمل أنّه أشار به إلى مطلق الزمان المتأخّر عن زمن موسى× الذي يقع فيه قتل الحسين عليه أفضل صلوات الله وسلامه، والله العالم بحقاق أحكامه.
يتبع…
_________________________
([2]) تاريخ الطبري 3: 305، مروج الذهب 3: 74، البداية والنهاية 8: 185.
([3]) المقنعة: 377، المبسوط 1: 282، منتهى المطلب 2: 611.
([4]) التهذيب 4: 299 / 905، الاستبصار 2: 134 / 437، الوسائل 10: 457، أبواب الصوم المندوب، ب 20، ح2.
([7]) مستدرك الوسائل 10: 318، أبواب المزار وما يناسبه، ب 49، ح14، وفيه: (وتعذّى).
([8]) مستدرك الوسائل 10: 318، أبواب المزار وما يناسبه، ب 49، ح 14، وفيه: (وتعذّى).