التفويض ـ القسم الثاني
تأليف: العلامة الشيخ سليمان بن أحمد آل عبد الجبار القطيفي (ت 1266هـ)
وقد قيل لمولانا الصادق×: إنّ رجلاً من ولد عبد الله بن سبأ يقول بالتفويض. فقال×: «وما التفويض؟»، قلت [يقول]([1]): إنّ الله تبارك وتعالى خلق محمّداً| وعليّاً× ففوّض إليهما، فخلقا، ورزقا، وأماتا، وأحييا. فقال×: «كذب عدوّ الله، إذا انصرفتَ عليه فاتلُ عليه هذه الآية التي في سورة الرعد: ﴿أَمْ جَعَلُواْ لِله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾([2])».
قال: فانصرفتُ إلى الرجل فأخبرته، فكأنّي ألقمته حجراً. أو قال: إنّه خرس… الحديث([3]).
وهو في معنى المشار إليه واضح لا غبار عليه.
وكان مولانا أبو الحسن علي بن موسى الرضا× يقول في دعائه ومناجاته للملك العلّام: «اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا، اللّهمّ لكَ الخلقُ [ومنك الأمر]([4]) وإيّاك نعبد وإيّاك نستعين، اللّهمّ لا تليق الربوبيّة إلّا بك، ولا تصلح الآلهيّة إلّا لك»… الدعاء([5]).
وبالجملة، فإن أرادوا بالتفويض هو المعنى المذكور فهو ممّا لا شكّ في بطلانه عند كلّ ذي شعور. وإن أرادوا به أنّ الله تعالى يفعل ذلك مقارناً لإرادتهم؛ كشق القمر، وإحياء الموتى، وقلب العصا حيّة، وغير ذلك من المعجزات فلا بأس بذلك، فإنّ معجزات الأنبياء^ من هذا القبيل والفاعل لذلك هو الله الواحد الجليل مقارناً لإرادتهم.
وهذا معنىً لا يأباه العقل وإن كان الظاهر انحصاره في المعجز لا غير، كما نطقت به الروايات عن الأئمّة الهداة^([6])، ولا يتعدّى ذلك إلى خلق كافّة الخلائق وقسمة أرزاقهم وإماتتهم وإحيائهم.
وبالجملة، واجب اعتقادنا أنّ الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وأنّ الأئمّة^ يدعون الله تعالى فيخلق، ويدعونه فيرزق.
ويكفيك من ذلك أنّ هذه المسألة قد وقع التنازع فيها بين الشيعة في أوائل غيبة صاحب الزمان# مع وجود سفيره بين أظهرهم، فاتّفقوا على كتابة ذلك إليه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فورد عليهم الجواب منه× على يد السفير بما أشرنا إليه، وأنا أذكر لك ذلك.
فلنفرض أنّ التنازع واقع وأنّ السفير موجود وأنّ التوقيع صادر إلى أهل هذا الزمان، إذ لا فرق بين الأزمان لعموم وجوب طاعته على الإنس والجان، ووجوب امتثالهم [في] ما يصدر منهم من البيان، فأقول: روى العلّامة المجلسي ـ المجمع عليه أنّه من الثّقات الأبرار ـ في كتابه (بحار الأنوار)، نقلاً من كتاب (الاحتجاج) للعلّامة الطبرسي ـ المجمع عليه أنّه من العلماء الأتقياء الأخيار ـ بسنده عن أبي الحسن عليّ بن أحمد الدلّال القمّي قال: اختلفت جماعة من الشيعة في أنّ الله عزّ وجلّ فوّض إلى الأئمّة^ أن يخلقوا ويرزقوا فقال قوم: هذا محال لا يجوز على الله تعالى؛ لأنّ الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله تعالى. وقال آخرون: بل الله عزّ وجلّ أقدر الأئمّة^ على ذلك وفوّض إليهم فخلقوا ورزقوا.
وتنازعوا في ذلك تنازعاً شديداً، فقال قائل: فما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري فتسألوه عن ذلك ليوضح لكم الحقّ فيه، فإنّه الطريق الواضح إلى صاحب الأمر×؟ فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلّمت وأجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيعٌ، نسختُهُ: «هو الله الذي خلق الأجسام، وقسّم الأرزاق؛ لأنّه ليس جسماً ولا حالّاً في جسم: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾([7])، وأمّا الأئمّة^ فإنّهم يدعون الله تعالى فيخلق، ويسألونه فيرزق، إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحقّهم»([8]).
[و] فيه كفاية لاُولي الألباب. فالجواب عليكم اعتقاد أنّ الخالق الرازق هو الله تعالى، فإنّه الاعتقاد الموافق للصواب. والسلامُ خيرُ ختام.
حرّره الفقير للطف الملك الغفّار سليمان بن أحمد بن عبدالجبار، ثاني عشر شوّال سنة (1259) هـ تسع وخمسين بعد المائتين والألف.
انتهى كلام المصنّف، وجفّ القلم عن تحريره في 3 ذي القعدة سنة (1314) الرابعة عشرة وثلاثمائة وألف. انتهى.
________________________
([3]) الاعتقادات للصدوق (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) 5: 100، البحار 25: 343 ـ 344 / 25، بتفاوت.
([4]) في المخطوط: (ولك الرزق)، وما أثبتناه من المصدر.
([5]) الاعتقادات للصدوق (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) 5: 99، البحار 25: 343/ 25، وفيه: ومنك الرزق.
([6]) راجع: الاحتجاج 2: 542 ـ 551 / 344، 345، 346، 347، والبحار 25: 211 ـ 350 / باب نفي الغلوّ في النبي والأئمة صلى الله عليه وعليهم.