دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 16
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
خزيمة ذو الشهادتين
وكمثال على ذلك ما يرويه البعض من حادثة وقعت بين النبي الأكرم محمد| وبين أعرابي باع له فرسه، تقول هذه الرواية التي ثبت أن النبي| صادق من حيث إنه نبي فهو صادق مصدَّق في كل ما يقول ويفعل: كان نبيّنا الأكرم| يمشي يوماً، فجاءه أعرابي وأمسكه من تلابيبه، ثم قال له: بعتك فرساً ولم تدفع لي الثمن. فقال النبي|: «بل اشتريت، وأعطيتك الثمن». فقال الأعرابي: إنك لم تسدّد، وإلّا فهات الشهود. فانفعل الصحابة من الأعرابي، وانتظروا أن يسمح لهم النبي بدفعه أو قتله، فقال لهم النبي الأكرم|: «دعوه، إن لصاحب الحقّ مقالاً». ثم قال: «من منكم يشهد لي؟». فلم يشهد له أحد.
فجاء خزيمة بن ثابت الأنصاري (رضي الله عنه)، فلما رأى الجمع سأل عنه فقيل له: أعرابي يطلب من النبي| ثمن فرس، وقد حبسه في الشمس يطالب بحقه، والنبي| يطلب الشهود فلم يشهد له أحد. فقال خزيمة وقد رأى النبي الأكرم| واقفاً تحت حرّ الشمس، فهاله الأمر: أنا أشهد له| على ذلك.
فسأله النبي الأكرم| قائلاً: «كيف تشهد، وأنت لم تكن معنا، ولم تسمع ولم ترَ؟». أي هل رأيتني بعينك وأنا أدفع له الثمن؟ فقال خزيمة: يا رسول الله، لقد صدّقناك على الوحي، وعلى أخبار السماء وما تنقل عن الله تبارك وتعالى، فقلت لنا: إن السماء تأمركم أن تصلوا فصلينا، وقلت لنا: إن السماء تأمركم أن تصوموا فصمنا، وقلت لنا: إن السماء تأمركم أن تزكّوا فزكّينا، ثم لا نصدّقك في هذا؟
أي أن النبي الأكرم| إما أن يكون صادقاً فيكون قوله كله، وفي كلّ شيء صدقاً، وإما أن يكون غير صادق وعليه فإن نبوته كلّها غير صادقة حينئذٍ. فقال له النبي|: «قد أجزت شهادتك، وجعلتها بشهادتين». فلقّب من حينها بذي الشهادتين([1]).
وهكذا فإننا نجد أن خزيمة هذا (رضوان الله عليه) قد ارتقت به نفسه إلى مرحلة أنه شهد للنبي دون أن يسمع منه مستخدماً بذلك دليل الأولوية أو ما يسمى بقياس الأولوية الذي انطوى على حقيقة وردت على لسان خزيمة هي: «إن السماء تأمركم أن تصلوا فصلينا» إلى قوله: «ثم لا نصدّقك في هذا؟».
رد شهادة الزهراء (عليها السلام) المطهرة عن الرجس
ولذا فإننا نجد أن كثيراً من الباحثين يثيرون مسألة هامة يبدون من خلالها استغرابهم الكبير وتعجّبهم حول رد شهادة السيدة الزهراء (سلام الله عليها)، بل شهادة من جاءت بهم شهوداً وهم الإمام أمير المؤمنين× والحسنان’ وأم أيمن رضوان الله تعالى عليها، فإذا كان خزيمة قد جعل رسول الله| شهادته بشهادتين، فكانت ماضية في كل آن وعند كل مورد لها، فإن الزهراء÷ أو أمير المؤمنين والحسنين (عليهم وعلى رسول الله جميعاً أفضل الصلاة وأتمّ التحايا، وأكمل السلام)، أو أم أيمن (رضوان الله عليها) ليسوا أقل شأناً من خزيمة، لكننا مع ذلك نجد أن شهادتهم قد ردت جميعاً مع أنهم لا يقربون الكذب بعد أن طهرهم الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز عنه، وعن كل دنس ورجس بنص قوله جل شأنه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾([2]) .
فالسيدة البتول فاطمة÷ صادقة مصدقة بنفسها، وهي في هذا لا تحتاج إلى شاهد في دعواها، فهي من أهل بيت طهرهم الله عن الكذب؛ فإذا ما قالت شيئاً فإنه حقّ وليس باطلاً أبداً، والنبي الأكرم| حينما قبل شهادة خزيمة لعلمه أنه صادق، ولولا أنه يعلم منه ذلك لما قبل شهادته أبدا، وكذلك الحال مع الزهراء سلام الله عليها التي ينبغي أن تقبل شهادتها لأنها صادقة مصدقة وكذلك الحال مع من جاءت بهم شهود ممن ذكرنا سلام الله عليهم أجمعين؛ فهم^ ـ كما ذكرنا ـ لبسوا أقلّ شأناً من خزيمة بن ثابت في مثل هذا المقام أبداً.
رجع
وعلى أية حال فإنه لابدّ لنا أن نتنبه إلى أن الشهادة تارة تكون شهادة على قدرة الله تبارك وتعالى على فعل الأشياء، وأخرى تكون على صدق النبي× في دعواه هذه، وهي في كل الأحوال شهادة للمجتمع في هذين الأمرين، فهم يريدون أن يكونوا شهداء على ما جاء به من معجزة للأجيال القادمة التي ستأتي من بعدهم؛ حيث إنهم سوف يتناقلونها جيلاً بعد جيل؛ لتبقى ثابتة راسخة في نفوسهم وقلوبهم مع امتداد الزمن كما رأينا من سرد هذه القصة في المباحث السابقة كما ذكرنا. وهم بقولهم هذا إنما يريدون أن يكونوا حلقة وصل بين نبي الله عيسى× وبين الأجيال التي ستأتي من بعده ومن بعدهم؛ لينقلوا لهم هذا المعجز الكريم والعظيم الذي جاء× به، فينقلوه بدورهم لمن سيجيء بعدهم، وهكذا؛ فيصبح المعجز متناقلاً بين أبناء الاُمم من جيل إلى جيل بصورة متواترة.
أهمية التواتر في النقل
وهذا أمر هام جداَ؛ ذلك أنه بعد أن تمر أجيال وأجيال على هذه الحادثة، ثم يأتي من يقول: إن النبي الفلاني فعل الشيء الفلاني فإن هذا الأمر لابدّ من إثباته للآخرين حتى يتأكدوا منه، ويقولوا به، ويعتقدوا به اعتقاداً كاملاً. لكن أن يكون نقل هذه المعجزة أو هذا الأمر عنه× عن طريق التواتر، أي أن ينقله في كل جيل جماعة كثيرون يمتنع حصرهم، ويمتنع تواطؤهم على الكذب، فإن هذا يعتبر من مسوغات النقل على أنه صحيح، ومن مسوغات قبول العقل هذا النقل. وهذا أمر جارٍ مع كل الأنبياء^ حتى مع نبينا الأكرم| الذي أتى بالكثير من المعجزات التي لم يذكرها القرآن الكريم، فلولا النقل الصحيح أو التواتر لما صدّقها الناس، ولما تمكّنا من إثبات وقوعها منه|. وهذا يعني أننا إنما نأخذ بهذه الأحاديث ونقول بها عن طريق أمرين:
الأول: التواتر
الثاني: الرواية الصحيحة الثابتة عنه| بهذا الخصوص.
وعلى أية حال فالله جل شأنه قد أنزل تلك المائدة كما رأينا على نبيه عيسى×، وأشبع تلك البطون الجائعة التي طلبت الطعام منه×، وقد كفل لهم× هذا الطعام وهيأ لهم معه الشراب، وهذا الأمر قد تكفل بنقله لنا القرآن الكريم فضلاً عن الروايات الواردة عن أهل العلم^ بهذا الخصوص والتي تكفلت بتفسير هذه الآية الشريفة.
يتبع…
____________________________
([1]) انظر: الانتصار: 491، سنن أبي داود 2: 166 ـ 167 / 3607 . وورد مثلها عن الإمام أمير المؤمنين علي×؛ فقد روي أن النبي الأكرم| ادعى عليه أعرابي سبعين درهماً عن ناقة باعها منه، فقال|: «قد أوفيتك». فقال الأعرابي : اجعل بيني وبينك رجلاً حكماً يحكم بيننا. فأقبل رجل من قريش، فقال له النبي|: «احكم بيننا». فقال للأعرابي: ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه. قال: ما تقول يا رسول الله؟ قال|: «قد أوفيته ثمنها». فقال للأعرابي: ما تقول؟ قال لم يوفِني. فقال لرسول الله|: ألك بينة على أنك قد أوفيته؟ قال: «لا». فقال للأعرابي: أتحلف أنك لم تستوف ِحقك وتأخذه؟ فقال: نعم. فحكم للأعرابي.
وهنا قال رسول الله|: «لاُحاكمن هذا الرجل إلى رجل يحكم فينا بحكم الله عزّ وجلّ». فأتى رسول الله| إلى علي ابن أبي طالب ومعه الأعرابي، فقال×: «مالك يا رسول الله؟». فقال|: «يا أبا الحسن، احكم بيني وبين هذا الأعرابي». فقال×: «ما تدعي على رسول الله؟». قال: سبعين درهماً ثمن ناقة بعتها منه. فقال×: «ما تقول يا رسول الله؟». قال|:« قد أوفيته ثمنها». فقال: «يا أعرابي، أصدق رسول الله فيما قال؟». قال: لا، ما أوفاني. فأخرج× سيفه، فضرب عنقه، فقال له رسول الله|: «لم فعلت ذلك يا علي؟». فقال: «يا رسول الله، نحن نصدقك على أمر الله ونهيه، وأمر الجنة والنار، والثواب والعقاب، ووحي الله عز وجل، ولا نصدقك في ثمن ناقة هذا الأعرابي؟ وإني قتلته لأنه كذبك لما قلت له: أصدق رسول الله فيما قال؟ فقال: لا، ما أوفاني شيئاً». فقال رسول الله|: «أصبت يا علي، فلا تعد إلى مثلها». ثم التفت| إلى القرشي وكان قد تبعه، فقال: «هذا حكم الله لا ما حكمت به» .الانتصار: 488 ـ 489.
وفي اُخرى أنه| قال له: «ما حملك يا علي على هذا؟». فقال: «يا رسول الله، نصدقك على الوحي من السماء، ولا نصدقك على أربعمائة درهم؟». انظر: الانتصار: 489 ـ 491.