دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 15
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
المبحث الخامس: فلسفة المعجزة
ثم انتقلت آية المقام الكريمة لتقول: ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو أن هؤلاء على أي شيء يريدون أن يكونوا شهداء؟ مر بنا في المباحث السابقة من خلال سرد واقعة إنزال المائدة من السماء أن هؤلاء قد قالوا له: إننا نريد أن نكون من الشاهدين عليها لمن غاب عنا ولم يحضرنا، ولمن سيجيء من بعدنا من الأجيال القادمة، لكن هذه الشهادة على أي شيء؟ إن هذه الشهادة تكون على أمرين هما:
الأول: الشهادة على قدرة الله تعالى
فهؤلاء من خلال هذا السرد والسياق التاريخي يريدون أن يقولوا للنبي عيسى×: إننا سوف نشهد أمام من حضر ولم يحضر بأن الله تبارك وتعالى قادر على كل شيء؛ كون المعجزة أمراً خارقاً للنواميس والطبيعة، وإذا كان كذلك فإنه لابدّ من أن تكون هنالك شهادة عليه. وهذا الأمر ربما يكون ضرورياً إذا ما عرفنا إن بعض البسطاء من الناس لا يقدرون على أن يفرقوا بين ما يقدر عليه الإنسان مما هو معجز لغيره من أبناء جنسه، وما لا يقدر عليه الإنسان البتة.
وكمثال على ذلك نذكر أن الإنسان قد استطاع أن يخترق الأجواء البعيدة، وأن يلج الفضاءات الواسعة من خلال إطلاق الصواريخ أو إطلاق المركبات الفضائية. وهذا النمط من الفعل ليس نمطاً إعجازياً وإن كان لا يقدر عليه بعض أفراد أبناء الإنسانية، لكنه ما دام قد قام به الإنسان بأمر من الله تبارك وتعالى عن طريق سلطان العلم([1]) فإنه حينئذٍ لا يكون أمراً معجزاً. فعلى الإنسان أن يميز بينه وبين المعجز، لكن ذكرنا أن البعض لا يميز بين ما يقدر عليه الإنسان وبين ما لا يقدر. وبعبارة أخرى فإن الإنسان وإن تمكن من اختراق الأجواء البعيدة وولوج الفضاءات الواسعة لكنه مع ذلك لا يتمكن ولن يتمكن أبداَ من أن يمنح ذبابة أو بعوضة، بل أي مخلوق روحاً مهما كانت قيمة ذلك المخلوق أو حجمه.
ضابطة التفريق بين المعجز وقدرات العلم
والدليل على أن الإنسان باختراقه الأجواء لم يأتِ بأمر معجز أنه قد استخدم النواميس الطبيعية التي ذكرنا أن المعجز هو الخروج عنها، فالخروج عن الناموس هو الأمر المعجز أما أن يستخدم الإنسان الناموس نفسه فهذا لا يعدّ أمراً معجزاً أبداً.
ونحن نعرف أن الإنسان إنما اخترق الأجواء فإنما اخترقها عن طريق استخدامه المعادلات الفيزيائية والرياضية التي تتحكم بسيرورة هذا الكون، فهو إنما يكون قد سخرها بإرادة من الله تبارك وتعالى وقام بها، وعليه فليس في البين أمر معجز أبداً وكما ذكرنا فإن أكبر دليل على عجز هذا الإنسان وأنه لا يصل إلى مرحلة الإتيان بالمعجز أنه لا يقوى على أن يمنح مخلوقاً ولا غيره من الكائنات الأخرى وإن حقرت روحاً أبداً ، ولهذا فإننا نجد أن العلم قد جاهد جهاداً طويلاً من أجل أن يخلق خلية حية، لكنه لم يفلح، ولم يتمكن من ذلك أبدا وإن تمكن من تصنيع أوليات هذه الخلية الحية. لقد عمد العلماء إلى إحدى الخلايا فقاموا بدراستها وتشريحها فوجدوا أنها تتكون من أربعة أشياء هامة هي:
1ـ جدار الخلية وما يمتاز به من خصائص نفوذية، ودوره في المحافظة على محتوياتها.
2 ـ محتواها السيتوبلازمي، وما يلعبه من دور في حياتها؛ إذ يوفّر محيطاً ووسطاً صالحين تسبح فيهما مكونات هذه الخلية.
3 ـ نواتها بما تنطوي عليه من وظائف عديدة منها احتواؤها على شبكات كروماتينية مسؤولة عن نقل الصفات الوراثية.
4 ـ أجسام كولجي المسؤولة عن حرق الطعام وعمليات الأيض في الخلية؛ لتوفير الطاقة لها.
هذا فضلاً عن مركبات وأجزاء أخرى معقدة، بل أكثر تعقيداً تدخل ضمن نطاق تركيب الخلية، لكنهم مع معرفتهم بفسلجتها لم يتمكنوا من أن يأتوا بخلية مثلها أبداً. ولو أن الإنسان تمكن من صنع خلية باثاً فيها الحياة والروح لتغير وجه الكون كله، لكنه لم يقدر ولن يقدر على هذا مع صغرها وضآلتها. فإننا نقول: إن المعجزة إنما هي من أمر الله تبارك وتعالى الذي اختصّ به نفسه، ولم يجعله لأحد من خلقه، وهذا يعني أنه جل شأنه يختص باُمور لا يقدر الإنسان عليها أو على الإتيان بمثلها.
فاكهة الصيف والشتاء
إن الإنسان في القرون الماضية لم يتمكن من أن ينمي أو ينتج الفواكه والخضار إلّا في فصولها المناسبة لها؛ فما كان منتوجاً شتوياً لم يتمكن من إنتاجه في الصيف، وما كان منتوجاً صيفياً لم يتمكن من استزراعه في الشتاء. وهذا يعني أن نشاطه الزراعي مرتبط بالفصل الذي قدر الله تبارك وتعالى لذلك الزرع أن ينمو فيه. لكن الإنسان بعد تطور وسائل العلم استطاع أن يقوم بتصنيع مباءات زراعية خاصة، أو ما تسمى بالبيوت الزجاجية، أو الدفيئات، أو خلافها مما يوفر بيئة باردة، والتي قام من خلالها بتوفير الظروف المناسبة للنبات في غير فصله ليتمكن من استزراعه واستثماره، ففي فصل الصيف يوفر مناخاً بارداً يتمكن معه من استزراع المحاصيل الشتوية واستثمارها، وفي فصل الشتاء يتمكن من خلال هذه المباءات من توفير مناخات دافئة يتمكن من خلالها من استزراع النباتات الصيفية واستثمارها.
وهذا يعني أن دعوى أن الإنسان لا يتمكن من أن يزرع النباتات الصيفية في فصل الشتاء أو العكس هو ادعاء غير صحيح بعد أن هيأ الله تبارك وتعالى له أن يخلق البيئة المناسبة للزرع عن طريق هذه المباءات التي ابتكرها وقام بتصنيعها. لكن الإنسان في المقابل يعجز عن الإتيان بأصل الشيء، فهو عاجز عن أن يخلق النبات نفسه؛ سواء كان نباتاً صيفياً أو نباتاً شتوياً، ومع عجز الإنسان عن الإتيان بأمثال هذه الاُمور فإنه يبقى أسير إرادة الله جل شأنه الذي أمره أن يستخدم ما هيّأ الله له من أساليب تمكنه من استخدامها في استثمار الحياة واستغلالها استغلالاً تاماً وصحيحاً دون أن تكون عنده القدرة والقابلية على أن يخلق تلك الأساليب التي قيضها الله جل شأنه له.
وكمثال على هذا أنه يتمكن من استخدام التربة والتدفئة والتبريد لإنتاج الثمار في غير وقتها، لكنه غير قادر على تخليق هذه التربة، أو على تخليق موارد التدفئة والتبريد، بل إنه يجدها مهيأة له، وغاية ما في الأمر أنه يقوم بتسخيرها وتصنيع ما من شأنه أن يستثمرها له. فالله جل شأنه هو الذي يملك أصول الأشياء، وهو الذي خلقها، وهو المتصرف الوحيد فيها، والمانح الإذن لعباده أن ينتفعوا بها، ويستفيدوا منها. فهو جل شأنه يبسط بيده ويقبض بيده، وهو الذي يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره، بل إن المصير إليه جل شأنه.
الثاني: الشهادة على صحة نبوّة روح الله (عليه السلام)
أي أن هؤلاء عن طريق الإتيان بهذا المعجز سوف يشهدون أمام غيرهم من بني جنسهم على صحة دعواه ونبوته، وأنه رسول السماء حقاً. لكن ينبغي أن نلتفت هنا إلى حقيقة هامة هي أن البعض من أبناء الإنسان الذين ارتقت بهم عقولهم ونفوسهم إلى مستويات عالية، وتطلعت بهم رؤاهم إلى آفاق واسعة رحبة نجد أنهم يصدقون بهذه الدعاوى الإصلاحية دون مطالبة للنبي× بأي معجز، ودون أن يكونوا بحاجة إلى ما يثبت هذه الدعوى منهم فهم يشهدون للنبي بصحة كل أقواله وإن لم يسمعوه، ويشهدون له بصحة كل مدعى له وإن لم يروا أنه إنما ادعى ذلك بناء على واقعة قد حصلت.
يتبع…
___________________________
([1]) قال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ الرحمن: 33.