دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 14
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
إرجاع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) عين قتادة
ومن هذا ما يرويه المحدثون والمؤرخون عن قتادة بن ربيع الذي فُقئت إحدى عينيه بسهم في معركة اُحد، وكان ليلتها قد بنى بزوجته، فلما أصبح سمع النداء للجهاد، فذهب إلى المعركة، فجاءه سهم أصاب عينه، فلما أخرجه خرجت عينه معه. فأخذها بيده ثم أتى بها إلى النبي|، وقال له: يا رسول الله، إن عندي امرأة اُحبّها، وإني أخشى إن هي رأت عيني أن تستقذرها. فأخذها رسول الله| من يده، ثم وضعها مكانها، فاستوت ورجعت سليمة كما كانت، بل أحسن مما كانت، فقد كانت أقوى عينيه نظراً، وأجملهما منظراً، وأصحّهما ([1]).
وقد ذكرنا آنفا أن المعجزة لا يمكن أن تكون هي الصبغة الطبيعية العامة للحياة، فالحياة مع المعجزات في كل مواردها ومفاصلها تعني شل الآخرين وقتل طاقاتهم وإمكانياتهم، ومنعهم من أن يستخدموا ما أودعه الله فيهم من قوى وقابليات ترفد المجتمع وتسمو به. إن المعجز إنما جعله الله تبارك وتعالى في موارده الهامة التي تتوقف عليها الحياة توقّفاً فعلياً بحيث لو لم تكن لبطل هذا الأمر، لا أنها تكون بديلاً عن تحقيق الأمر الذي يراد تحقيقه عن طريق المعجزة مع أنه بالإمكان تحقيقه بالأمر الطبيعي، فهذا ما لا يمكن أن تجري فيه المعجزة أبداً.
وهذا يعني أنه إذا كان بالإمكان أن يتحقق أمر ما عن طريق العامل الطبيعي، أو عن طريق تدخل الإنسان نفسه لتحقيقه وإيجاده فإنه حينئذٍ لا ينبغي اللجوء إلى الأنبياء أو الرسل^ لتحقيق ذلك الأمر عن طريق المعجزة، بل إن المعجزة إنما تترك لما لا يمكن تحقيقه أو القيام به بالظرف الطبيعي، وبالحالة الاعتيادية، وإلّا فإن الحياة حينئذٍ سوف تشل كما ذكرنا وتتوقف؛ إذ معنى أن نلجأ إلى المعجزة في كل مفصل من مفاصل حياتنا هو أننا إنما نحيّد ونحجّم طاقات الإنسان التي أودعها الله تعالى فيه، وأمره باستثمارها والإفادة منها، ونمنعها من أن تبرز إلى الواقع الخارجي وإلى الميدان العملي في هذه الحياة.
إذن سلاح المعجزة إنما يستعمل في وقته دون أن يكون هنالك مسوغ لأن يستعمل في كل حين كما كان يفعل البعض حينما يأتي إلى النبي الأكرم| طالباً منه أن يخبره بأي سنة لا يكون فيها مطر حتى لا يلقي بذوره في الأرض وتذهب سدى، وتتلف؛ إذ لا مطر ينبتها، أو أن يسأله أحدهم عن هذه التجارة التي هو فيها هل ستكون رابحة، أم لا ؛حتى يقدم عليها، أو لا يقدم.
فهذه الأمور لا يمكن إخضاع المعجزة لها، ولا يمكن إجراؤها فيها؛ لأن المعجزة كما ذكرنا إنما تكون في وقتها الذي يستلزمها وهي توقف صحة مدّعى النبي أو الرسول علىها، وبالتالي ضرورة الإتيان بها، أي أنها تجري وفق سنن إلهية لا يمكن للإنسان أن يتحكم بها في كل وقت وفي كل آنٍ كما يشاء وكما يحلو له، وإلّا فلو أجرينا فيه مثل ما ذكرنا من أسئلة كانت توجه لرسولنا الأكرم|، لشُلّت الحياة، وتوقّفت حركتها.
الأولياء والكرامات
وكما سلح الله تبارك وتعالى أنبيائه ورسله بالمعجزات فقد سلح أولياءه وعباده الصالحين منهم بالكرامات التي تجعل من الناس يقبلون عليهم وينشدون إليهم من خلالها.
الإمام الصادق (عليه السلام) يدعو على حكيم بن عباس
يروي المؤرخون أن رجلاً جاء إلى أبي عبد الله×، فقال: يابن رسول الله، إن حكيم بن عباس الكلبي ينشد الناس بالكوفة هجاءكم. فقال: «هل علقت منه بشيء؟». قال: نعم. فأنشده:
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة * ولم نرَ مهدياً على الجذع يصلبُ
وقستم بعثمان علياً سفاهة * وعثمان خير من علي وأطيبُ
فرفع الإمام أبو عبد الله× يديه إلى السماء وهما ينتفضان رعدة، فقال: «اللهم إن كان كاذباً، فسلط عليه كلباً من كلابك».
قال: فخرج حكيم من الكوفة، فأدلج، فلقيه أسد فأكله، فجاء البشير للإمام أبي عبد الله الصادق× وهو في مسجد جدّه رسول الله|، فأخبره بذلك، فخر× لله ساجداً شكراً، وقال: «الحمد لله الذي صدقنا وعده»([2]).
فالكرامة كما المعجزة إنما تأتي في وقتها، أو في وقت تمسّ الحاجة فيه إليها دون أن تكون حالة طبيعية للحياة، أو صبغة ثابتة لها تسير عليها في كل مفاصلها وحركاتها بأن تصبح ديدنا ثابتا لها.
ومن خلال إنزال النبي عيسى× المائدة عليهم من السماء بأمر الله تبارك وتعالى يكون قد جاءهم بأمر معجز لا يقدر عليه أحد أبداً كما هو الحال مع معجزاته الأخرى من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى وما إلى ذلك، وكلها بأمر الله تبارك وتعالى وإرادته، وهي معاجز مسبوقة بتحدّ كان لزاماً على هؤلاء الذين تحدوا النبي عيسى× بها أن يؤمنوا به بعد تحقيقها لهم، وإلّا فإنهم سوف لن ينجوا من عقوبة الله تبارك وتعالى ولهذا فإن النبي عيسى× قال لهم: «لا تسألوا لأنفسكم البلاء». وقال: «إلهي اجعلها رحمة، إلهي لا تجعلها عذاباً».
يتبع…
________________________
([1]) انظر: الاحتجاج 1: 332 ـ 333، الثاقب في المناقب : 64 ـ 65 / 41، المستدرك على الصحيحين 3 : 295.
([2]) دلائل الامامة : 253 / 177، نوادر المعجزات: 142 / 11، مناقب أهل البيت^ (الشيرواني): 268، شرح نهج البلاغة 15: 238، الفصول المهمة في معرفة الأئمة 2: 920، ينابيع المودة لذوي القربى 3: 114، الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة: 202 (باختصار).