دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 13
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
المبحث الرابع: أهمية المعجزة في حياة الأنبياء (عليهم السلام)
ثم انتقلت آية المقام الكريمة لتقول: ﴿وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا﴾، إن قوله تعالى هذا يعني أن الأنبياء^ حينما بعثهم الله تبارك وتعالى سفراء ودعاة له ولدينه، فإنه جلّ شأنه سلّحهم بما حقيقته وكنهه مدعاة لأن يصدقهم الناس في دعواهم تلك، وهذا السلاح هو المعجزة. فمعنى قوله تبارك وتعالى: ﴿صَدَقْتَنَا﴾ أن النبي عيسى× إذ يجيئهم بهذه المعجزة التي لا يمكن لأحد أن يأتي بها بغير أمر الله جل شأنه وإرادته فإنه يكون قد أوجد الداعي والسبب الذي يدفع هؤلاء إلى التصديق به.
وقد مر بنا من خلال سردنا لواقعة المائدة هذه في المبحث السابق أن الذين كانوا يخرجون مع النبي عيسى× عند سياحته ليسوا كلهم من أتباعه وأصحابه والمؤمنين به، بل إن بعضهم كانوا من أعدائه، أو من اليهود، أو من غير المؤمنين به والمسلمين لدين الله تبارك وتعالى. إذا فقول الحواريين هذا: ﴿صَدَقْتَنَا﴾ يراد به أنه يكون هنالك دليل وإعجاز يثبت لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالنبي عيسى× أنه نبي حقاً.
ومن هنا فإننا نذهب إلى أن أمر ورود المعجزات وجريانها على أيدي أنبياء الله^ هو أمر هام لهم في مسيرتهم الدعوية؛ إذ لولا الجانب الإعجازي لما أمكن لنبي منهم أن يثبت نبوّته وصدق مدّعاه، ولولا هذه المعجزة لأصبح بإمكان كل شخص ـ أياً كان ـ أن يدّعي النبوة ما دامت بتلك السهولة.
المأمون ومدعي النبوة
وتحضرني في المقام واقعة طريفة ونكتة ظريفة حدثت بين المأمون وأحد من ادعوا النبوة في عهده؛ فقد تنبّأ هذا الرجل في عهده فاُوصل خبره إليه، فدعا به إليه، وقال له: ما أنت؟ قال: أنا نبيّ. قال له المأمون: ما برهانك؟ فقال: أتؤمن بما جاء به محمد؟ قال: نعم. قال: فإنّ النبي محمداً| قال: لا نبيّ بعدي، وأنا اسمي «لا». فضحك المأمون، وقال لمن حضره: أما أنا فقد انقطعت، فمن كان عنده حجّة فليأتِ بها ([1]).
وموضع الشاهد هنا أن النبوة ما لم ترافقها معجزة فإنها تصبح اُلعوبة بأيدي المدّعين، ولقمة سائغة في أفواه كل من أرادوا أن يدعوها على السماء بالزور والبهتان دون دليل أو برهان. ونحن نعلم أن كل دعوى مهما كانت باختلاف تفاوت قيمتها وأهميتها وضرورتها ما لم يقم عليها برهان أو تقم عليها بينة، فإن القائلين بها أدعياء كذابون ما داموا لا يستطيعون أن يثبتوها سيما في مثل هذا الأمر الذي لا يتعذّر على الله سبحانه وتعالى أبداً تأييد أنبيائه بالمعجز.
إن دعوى النبوة ليست بالأمر السهل أو الهين أبداً، وكل من يخاطب الناس بلسان النبوة، مدّعياً أنه سفير السماء إليهم، فلا بد له من أن يثبت لهم صحة دعواه هذه حتى يتبعوه، ويغيروا عقائدهم وعباداتهم ومعتقداتهم إلى العبادة التي يجيئهم بها، والمعتقدات التي يطرحها عليهم كبديل لتلك المعتقدات التي كانوا عليها؛ ولذا كان لابدّ من تسليح النبي× كما ذكرنا بالمعجزة؛ حتى يصدقه الناس، ولا يبقى لهم عذر أو مجال بتكذيبه.
والمعجزة إنما تفعل وتطرح في وقت تدعو الحاجة فيه إلى ذلك، كأن يكون هنالك تحدٍّ من أولئك الناس المدعوين إلى هذه الديانة الجديدة للنبي× فيطالبونه بها حتى يتأكدوا من صحة دعواه هذه، فإن دعت الحاجة إلى ذلك جرت المعجزة على يد الأنبياء والرسل^ جريان الماء في منحدراتها دون توقف، ودون تلكؤ. وكما ذكرنا فإن أي أمر إعجازي فإنه إن كان مبنياً على تحدٍّ فهو معجز، وإن لم يكن مبنياً على تحدٍّ، بل لحاجة إليه مع إيمان الطالب له بقدرة من طلب منه تحقيقه، فإنه حينئذٍ يسمى كرامة لذلك الشخص الذي يقوم بها.
يتبع…
______________________________
([1]) لم نعثر عليه بهذا النص، وما عثرنا عليه أن امرأة ادّعت النبوّة على عهد المأمون، فأحضرت اليه، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا فاطمة النبيّة. فقال لها المأمون: أتؤمنين بما جاء به محمد|؟ قالت: نعم، كل ما جاء به فهو حق. فقال المأمون: فقد قال محمد|: «لا نبي بعدي». فقالت: صدق (عليه الصلاة والسلام)، فهل قال: لا نبية بعدي؟ فقال المأمون لمن حضره: أمّا أنا فقد انقطعت، فمن كانت عنده حجة فليأتِ به. وضحك حتى غطَّى على وجهه. التذكرة الحمدونية 7: 241 / 1066، نهاية الأرب في فنون الأدب 4: 14 ـ 15.