الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 17
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
وقال بعض المحقّقين بعدما تبين لوازم اختلاف حركة الشمس طولاً وعرضاً وعمقاً، وما يترتّب عليها من المصالح الأرضيّة: إعلم يا أخي أن المعاني التي قلتها تُبين أن الأرض والسماء بمثابة شيء واحد مترابط، والكون كله بمنزلة شيء واحد متشابك، والأشياء كلّها متّصلة مع بعضها، ومثلها كمثل الإنسان الواحد؛ له رأس وجذع ولكن أحدهما يفضي إلى الآخر، وأجزاؤهما مترابطة مع بعضها ومنسجمة ومتناسقة كما قال سبحانه: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾([1]).
يا أخي، إن هذه الاُمور إذا لم تجعل كلّ من يعرفها يقرّ بوجود صانع واحد حكيم أضفى على هذه الكثرة نظاماً واحداً ووضع كلّ شيء في موضعه ـ ولا ينكرها إلا من انحرف على الفطرة ـ فإنه لا يكون إلّا ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى﴾([2])]([3]).
وقال المحقق الدواني سلّمه الله في بعض رسائله: [لو فتح أحد عين البصيرة والاعتبار وأجال نظره في هذا الكون اعتباراً من بدايته ـ وهي عالم الروحانيات ـ وحتى نهايته ـ وهي عالم الجسمانيات ـ لرآه كلّه كسلسلة واحدة متشابكة منتظمة ومتداخلة في بعضها الآخر، وكل واحد من أجزائه متّصلاً بتاليه، بل كلَّ واحد متداخلاً مع الآخر حتى يخالها الناظر وكأنّها تشكل كله بيتاً واحداً. ولا يخفي على ذوي البصيرة الناقدة بأن مثل هذا الترابط والتلاحم لا يتم إلّا بوحدة الصانع مثلما ينكشف هذا المعنى لذوي العقول الباصرة من خلال ملاحظة صنائع الصناع المتعدّدين.
وبما أن الصانع واحد فإن المقرّر لدى ذوي العلم والبصيرة أن المؤثّر الحقيقيّ في جميع الأشياء ليس إلّا الله الواحد، ولكن إذا اختلف المصدر الصوري يظهر كثير من التنافر والتناكر بين المصنوعات. ويتّضح للعقول الواعية من خلال ملاحظة هذا المعنى وأشباهه بأن النظم والوحدة التي تسود أجزاء العالم إنما تدلّ على وحدة الصانع. ومعنى الآية الكريمة: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾([4]) مبني على هذا المعنى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ﴾([5]).
ومن هنا يقول بعض أصحاب النفوس المشرقة: كذبت الثنوية وأيمُ الله، لو كان إله آخر فأنى شمسُه؟([6]) أبى النظام شمسين، فكيف لا يأبى إلهين]([7])؟ انتهى.
وعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة: أنه ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ﴾ فيتعدد الإله الموثّر فيهما ﴿لَفَسَدَتَا﴾ أي خرجتا عن هذا النظام الوحدانيّ، و[ذلك]([8]) الارتباط والائتلاف الطبيعيّ، واختل انتظامهما، وبطل اتّساقهما. ولا يتوهّم أنه إقناعي، بل الفطرة السليمة تشهد بأن الاُمور المرتبطة المتّسقة المنتظمة المترتبة على تعانقها وارتباطها وانتظامها فوائد بوجه ـ كأنها أمر واحد لا تكون إلّا فعلاً لفاعل واحد.
قال أبو الحسين العامريّ في بعض رسائله: (ثم قالوا: لو لا ارتباط بعض الموجودات بالبعض على الوصف الحقيقي، والنظم الحكميّ، لما دلت الجبلّة على أن مبدعها واحد محض، فحالها في ارتباطها إذن قريبة الشبه من حال الثورين المضمودين للفدّان و[فيمسكهما في حراثة]([9]) المزارع)، انتهى.
فتبيّن وظهر أن الصانع للعالم ومبدعه لعنايته بهداية المخلوقات أوجد الموجودات المتكثّرة مع تخالفها وتباينها على وجه ونحو تشهد كلّ فطرة سليمة على وحدة صانعها، ومكوّنها ومبدعها ومدبّرها:
ففي كلّ شيء له آيةٌ تدل على أنه واحد([10])
فالعالم كله أجلى قائد للعقل إلى وجود الصانع ووحدته، وإدراك هذا المعنى مركوز في الجبلّات، وهو الذي يضطرّهم إلى دعاء الله في مواقع الحاجات والضرورات، فإنكار المنكرين، وجحود الجاحدين من الملحدين والمشركين إنما هو من خذلان ربّ العالمين، نعوذ بالله من خذلان الله.
ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهّاب، وصلّ على محمد وآله الهادين للحق والصواب، والمزيل للزيغ والارتياب، في كلّ باب.
هذا آخر ما أردنا إيراده في هذه الرسالة، وإلى الله الرجوع في البداية والنهاية.
________________________
([3]) ترجمنا ما بين المعقوفين خدمة للقارئ.
([6]) في المخطوط: (فأبى نفسه)، وما أثبتناه من نسخة بدل في هامش المخطوط).
([7]) ترجمنا ما بين المعقوفين خدمة للقارئ.