الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 16
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
فالأولى أن يوجد الدليل بما أقول، وهو أنه لا يخلو من أن يكون قدرة كلّ واحد منهما وتعلق إرادته كافية في وجود العالم، أو لا شيء منهما بكافٍ أو أحدهما كافٍ فقط.
فعلى الثاني والثالث يلزم عجزهما، أو عجز أحدهما، أو عدم كونه خالقاً.
وعلى الأول يلزم استناد العالم إلى ما لا يتوقّف عليه وجوده بخصوصه.
والحقّ أن المعلول لا يستند إلّا إلى ما يتوقّف عليه بخصوصه؛ إذ لو أمكن كون أحد الأمرين أو الاُمور كافياً في وجوده، كان العلّة الحقيقية هو القدر المشترك، فيلزم أن يكون الواحد بالعموم علّة للواحد بالعدد، وهو ممتنع ممنوع. وقد صرح المحقق الدواني بذلك في حواشيه على (التجريد)، فتدبر.
لكن هاهنا موضع نظر دقيق سنح لي، لا يندفع بما عبّرناه من التوحيد، وهو أن يقال: إنا نختار أن قدرة كلّ منهما وإرادته غير كافية في وجود هذا العالم بعينه وتشخّصه، بل قدرة واحد منهما وإرادته كافية فيه، ولا يلزم عجز الآخر إلّا إذا لم يكن الآخر قادراً على إيجاد مثل هذا العالم أيضاً؛ فإن كون أحد القادرين قادراً على إيجاد عين أثر الآخر، لعله محال ممتنع.
ولا يلزم من عدم القدرة على المحال عجز أصلاً وقطعاً كما لا يخفى على اُولي النهى، ولا يلزم من استحالة كون أحدهما قادراً على فعل الآخر استحالة كون أحدهما قادراً على مثل فعل الآخر فيجوز أن يكون أحدهما قادراً على مثل فعل الآخر، لا على عينه، ولا يستلزم ذلك اجتماع المؤثّرين التامّين، على معلول واحد شخصيّ، بل إنما يلزم جواز اجتماعهما على معلول واحد نوعيّ، ولا محذور فيه على ما هو المشهور.
والحاصل، أنه لو كان هذا العالم بعينه أثراً لواحد منهما، ويكون الآخر قادراً على إيجاد مثله لا عينه أو يكون بعض أجزاء العالم أثراً لواحد منهما، وبعض آخر من أجزائه أثراً لواحد آخر منهما، ويكون كلّ منهما قادراً على مثل ما قدر عليه الآخر، لا على عينه ـ لا يلزم عجز أحدهما؛ إذ لا عجز في عدم القدرة على المحال، ولا اجتماع المؤثرين التامّين على معلول واحد شخصيّ، وهو ظاهر.
فإن قيل: على التقدير الأول لم يكن أحدهما إلهاً للعالم، إذا المراد بالإله هو الخالق للعالم، والمطلوب منا نفي تعدّد الإله الخالق للعالم، لا نفي تعدّد الواجب بالذات، ويلزم منه على هذا التقدير ذلك.
قلنا: يجوز وقوع الاحتمال الثاني، ولا يلزم عجز أحدهما، ولا اجتماع المؤثّرين التامّين على معلول واحد شخصيّ، ولا عدم كون أحدهما إلهاً خالقاً كما لا يخفى هذا.
ونقول: على ما قررناه من التوحيد أيضاً أن قدرة كل منهما وتعلّق إرادته غير كافية في وجود ما تعلّق به إرادة الآخر بعينه، وبشخصه، فلا يلزم استناد المعلول إلى ما لا يتوقف عليه بخصوصه ولا عجز أحدهما إلا إذا لم يكن الآخر قادراً على مثل ما أوجده الآخر. وهو ممنوع؛ فإن عدم القدرة على المحال ليس عجزاً.
ويحتمل استحالة كون أحد القادرين قادراً على عين فعل الآخر، كما ذهب إليه بعضهم، بل هو الحقّ الحقيق بالتصوّر؛ فإن التحقيق كما مرّ أن المعلول لا يستند إلّا إلى ما يتوقّف عليه بخصوصه، وإلّا يلزم كون الواحد بالعموم علة للواحد بالعدد، وهو محال.
وأيضاً قد حقّق في موضعه أن المشخّص إنما هو نشأة وجود الصادر من (ب)، وإن فرض اتّحاد الصادرين في تمام الحقيقة وفي جميع المشخّصات المشهورة، فلا يتصور أن يكون الصادر عن (أ) بعينه صادراً عن (ب) أصلاً.
فإن قيل: بناء على ما ذكرت يجوز اجتماع المثلين في محلّ واحد بعلّتين فاعليّتين، وهو خلاف ما اتّفق عليه القوم، بل خلاف الحقّ أيضاً.
قلت: العلّة الفاعلية في الأمثال [واحدة]([1]) هي ربّ نوعها، فلابدّ في تعدّد المثلين من تعدّد المحلّ؛ إذ لا يتصوّر فيها تعدّد العلّة الفاعليّة، فتأمل.
وأنت تعلم أنه بما ذكرناه ينهدم بنيان الدليل المشهور بالتمانع رأساً([2])، ويظهر أنه لا يكاد يتمّ بوجه من الوجود قطعاً، فالأصوب أن تفسّر الآية الكريمة([3]) بما هو قريب ممّا مرّ، وهو أن يقال: لو تعدّد الإله الخالق الصانع للعالم لفسد العالم، وخرج عن النظام الذي هو عليه، وبطل الارتباط [الذي]([4]) بين أجزاء العالم، واختل نظمها واتساقها، فلم يكن بينها هذا النظام والانتظام، ولم يحصل ذلك الارتباط والاتّساق، ولم يوجد هذا الصلاح الوجدانيّ والائتلاف الطبيعي، بل لوجد الوضع منتشراً والصنع متبدّداً، والرؤساء متكثّرة، ويختلّ الارتباط والاتّساق والسياسة التي بين أجزائه، ويفسد النظام الواحد والانتظام والائتلاف الطبيعيّ الواقع بينهما كما تشهد به الفطرة السليمة، ويحكم عليه الفطنة الصحيحة القويمة. قال بعضهم بالفارسية: [ثم إن العقلاء الّذين نظروا في الكون وأجالوا الفكر في وحدانية المكوّن كان طريق سفرهم هو أنهم شاهدوا كيان هذا العالم يسير بتدبير واحد، وأن الشمس مثلاً لا تنقص بينما القمر يزيد وينقص، والليل والنهار يسيران على تدبير واحد، وخلقة الحيوانات كلّها على بناء واحد، ومصالح السماء مُتّصلة بمصالح الأرض، قال الله تعالى: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾([5]).
ألا ترى أيها الناظر أن خلق الله تعالى ليس فيه من خلل أو اضطراب أو انعدام في الانسجام والتناسب، وأن الكائنات تسير كلّها على نظام واحد ومتّصلة مع بعضها الآخر كالسلسلة، وهي وإن كانت متعدّدة ومختلفة في الفعل إلا إنها ذات وجه واحد وسياق واحد؟ وهذا يدل على أن مدبّر العالم جل ذكره واحد. وكل عمل يدخل فيه أكثر من مدبّر يقع فيه اختلاف وخلل، ولكن المدبّر إذا كان واحداً فإن العمل يكون متّسقاً ومنتظماً. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى عزّ من قائل: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾([6]).
وقال عز من قائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾([7]).
يتبع…
________________________
([2]) فإن قيل: إذا كان كل من الإلهين قادراً على كلّ ما يقدر عليه الآخر، فاختصاص أحدهما بإيجاد بعض المقدورات دون بعضٍ ترجيح بلا مرجّح؛ لاستواء نسبة الكلّ بالنسبة إلى كلّ منهما.
قلنا: إنما يلزم الترجيح بلا مرجّحٍ لو لم يكن لأحدهما زيادة اختصاص، وارتباط ومناسبة بالنسبة إلى بعض المقدورات بعينه وإن كان الكل مقدوراً لكلّ منهما، وهو ممنوع فتأمل. (منه)، (هامش المخطوط).
([3]) وهي قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾. الأنبياء: 22.