الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 14
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
تقرير آخر
قد تبيّن في موضعه أن العالم الجسماني واحد طبيعيّ، وأنه حيوان واحد، والفطرة السليمة تحكم بأن الواحد الطبيعي وإن كان ذا أجزاء مختلفة إذا كان مصنوعاً يكون صانعه واحداً؛ فإنه لا يجوّز عاقل أن يكون فاعل شخص واحد من الحيوان وموجده متعدّداً، بل يحكم حكماً حتماً جزماً بأنه ماصدر ذلك الشخص الواحد إلّا من فاعل بالضرورة ومنه يجوز أن يكون فاعلُ شخصٍ واحد طبيعيّ متعدّداً، فقَدْ خرج عن الفطرة الإنسانيّة، والعالم الجسماني ممكن بجميع أجزائه، فيكون مصنوعاً. ولكونه واحداً طبيعيّاً وحيواناً واحداً شخصيّاً يجب أن يكون صانعه وفاعله وموجده ومدبّره واحداً لما مرّ، فتدبّر.
الوجه الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم، ولابد في تقريره من تمهيد مقدمات:
الاُولى: أن الاُمور المتلازمة يجب أن يكون بعضها علّة لبعض، أو تكون كلّها معلولة لعلل متلازمة أو علّة واحدة لجهات متلازمة بالضرورة. ثم إن اللزوم كالتلازم في استلزام العلّيّة، بل المنشأ هو اللزوم بحكم الفطرة.
الثانية: لا يمكن أن يتحقّق بين واجبين بالذات تلازم؛ إذ التلازم إنما هو امتناع الانفكاك بوجه يكون الانفكاك ـ بما هو انفكاك، وافتراق ـ مستلزماً لمحال، فلو كان بين واجبين تلازم، نمنع انفكاك كلّ عن صاحبه امتناعاً لازماً من الانفكاك، كأنّ بينهما علاقة علّيّة بحكم المقدّمة الاُولى، وهو ممتنع ممنوع. فلو امتنع انعدام واجب لم يكن ذلك تلازماً، بل ذلك الامتناع لامتناع عدم الواجب، لا لامتناع الانفكاك بما هو انفكاك.
المقدّمة الثالثة: لا يمكن أن يكون جسمانيٌّ علةً موجدةً للجسم، وفاعلاً موثراً للبعد الجوهري قطعاً، وقد حققت ذلك في موضعه.
المقدمة الرابعة: أن بين [الأجسام]([1]) العظام الّتي [هي] في هذا العالم تلازماً، وكذا بينها وبين أعراضها، بل بين أكثر الأعراض ومحالّها لما حقّق ذلك في مظانّه، ولو فرض عالم آخر أمكن إثبات التلازم بين أجسامها العظام، وأجسام هذا العالم.
وبعد تمهيد تلك المقدمات نقول: لمّا كان بين الأجسام المختلفة الّتي في هذا العالم تلازم، لابد أن يكون بينها علاقة علّيّة لما مرّ، ولا يمكن أن يكون بعضها علّة لبعض لما مرّ في المقدمة الثالثة؛ فلابد أن تكون كلّها معلولات لعلّة واحدة مجرّدة بجهات متلازمة، أو مجرّدات متلازمة، ولا يمكن انتهاء الاُمور المتلازمة إلى الواجبين، لما مرّ من أنه لا تلازم بين الواجبين. فمنتهى علل أجسام هذا العالم واجب مجرّد واحد، وهو المطلوب.
بل نقول: للتلازم واللزوم بين الاُمور الجسمانيّة من الأعراض والصور الجوهرية، ومحالها والمجردات الّتي تعلّقت بهذه الأجسام والجسمانيّات على تقدير وجودها، لما بين في محلّه يلزم أن تكون سلسلة ممكنات هذا العالم كلّها تنتهي إلى واجب واحد، بل لو فرض عالم جسمانيّ آخر يجب انتهاء الكلّ أيضاً إلى الواجب الواحد، فتدبر.
فإن قيل: لم لا يجوز أن تكون أجسام هذا العالم مختلفة الذوات متعدّدة، بل تكون بعداً واحداً مصوّراً بصور مختلفة متباينة، فيكون هذا العالم جسماً واحداً [متعدّداً مختلفاً]([2])؟.
قلنا: هذا الجسم المتّصل الواحد والبعد الجوهري مركّب من أجزاء متلازمة، هي الهيولى، والصورة الجسميّة، فلابد أن تنتهي علّته وعلل أجزائه إلى واجب مجرد واحد. وأيضاً بين هذا الجسم المتّصل الواحد وبين الصور المتعدّدة المختلفة الحاصلة فيه لزوم بل تلازم، فلابد أن تنتهي عللها إلى واجب مجرّد، على أنه لا شكّ في وقوع الانفصال بين أجزاء هذا الجسم المتّصل الواحد.
وعلى هذا التقدير لا يكون ذلك الانفصال وارداً على مفصل بين أجزاء هذا الجسم فطرة؛ لأنه خلاف المفروض من وحدة الجسم والبعد الجوهري، فالانفصال طارئ على هذا التقدير المتّصل، وبطريانه ينعدم هذا الجسم الواحد، ويحدث جسمان، وبعدان آخران، فنقول: بين هذين الجسمين والبعدين الحادثين مثلاً تلازم، وإلّا يلزم الخلاء([3])، فلابد أن تنتهي علتهما إلى واجب واحد، وهو المطلوب، فتأمل.
ولا يخفى عليك أنه لا يلزم منه نفي تعدّد الحقائق للعالم، وحصر خالقيّة العالم في واحد، اللهم إلّا أن يقال: المفهوم المتبادر المتعارف، بل المعنى الحقيقيّ للشريك في الفعل أن يكون لكلّ من الشريكين فعل وأثر، ويكون كل منهما مستقلاً في فعله وتأثيره وإحداث أثره. فإذا فرض فاعلان يكون أسباب فعل أحدهما من الآخر لم يكونا شريكين، بل يكون الذي هيّأ أسباب فعله من الآخر واسطة، وآله للآخر.
ولا يخفى أن وجود الفاعل من أسباب فعله، وكذا قدرته وتمكّنه من الفعل؛ ولأن الممكن لا يؤثّر بإمكانه بل لا يؤثر إلّا بعد أن يكون واجباً، فإذا كان غيره موجباً موجداً له وتأثير العلّة حال وجود المعلول، كان وجوده منوطاً مربوطاً بعلّته، والإيجاد فرع الوجود، فيكون إيجاده بغيره، فلم يكن مستقلاً في الإيجاد، فلم يكن شريكاً لموجده ومبقيه وحافظه، وممكنه عن التأثير، بل يكون بمنزلة آلة لموجده، ومن يجعله بحيث يؤثّر، ويمكّنه من التأثير بتهيئة أسباب تأثيره وفعله، مثلاً لا يقال للمنشار: إنه شريك للنجّار في النشر، والقلم شريك للكاتب في الكتابة، فتأمّل فيه.
يتبع…
________________________
([2]) في المخطوط: (متعدّدة مختلفة).
([3]) الخلاء: هو المكان المطلق، أو هو المكان الذي لا متمكن فيه. رسائل فلسفية (أبوبكر محمد بن زكريا الرازي): 170 ـ 171.
أو هو المكان الفارغ الذي لا متمكّن فيه. رسائل إخوان الصفا 1: 446، 2: 28.