الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 12
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
تذييل
اعلم أن العلّامة الدواني (سلّمه الله) ذكر في رسالته (التهليلية) على طريقة الإشراقيين برهاناً على التوحيد، نريد أن يذكر هاهنا ليتضح ماله وما عليه، وتكون رسالتنا هذه مشتملة على طريقتهم أيضاً.
قال (سلّمه الله) بالفارسية، بعدما بين على طريقة الإشراقيين اتحاد الأنوار في الحقيقة بزعمه، وجعله مقدمة للتوحيد: [بعد إقرار هذه المقدّمة ـ وهي أن الاختلاف بين الأنوار ليس بالنوع ولكن بالكمال والنقصان في ذاتها الحقيقية ـ نقول: إن النور الغنيّ المطلق لا يمكن أن يكون متعدّداً؛ وذلك لأنه لو كان متعدّداً فإن تمايزه لا يكون بسبب حقيقته ولوازمها؛ لأنّها مشتركة فيما بينهما كما مرّ بنا، ولا يمكن أن تكون بالأعراض؛ لأن سبب اختصاص كلّ تعارض مع حقيقتها إما أن يكون لهويّتها الذاتية وإما لأمر خارج: أما الأوّل فباطل؛ وذلك لأن حقيقتها واحدة، وأمّا الثاني فبطلانه ظاهر؛ لأن تحصيل الهوية يتوقّف على ذلك العارض، وأمّا الثالث فباطل؛ لأنه يتوقّف على الغير في تحصيل الهوية.
إذن فهي لا تعتبر وجودات غنية مطلقة، ولا تكون متمايزة بكمالها ونقصها؛ لأنَّ المفروض هو أن يكون كلا النورين غنيّين مطلقين، وحينئذ لا يكون الناقص غنياً مطلقاً؛ لأن الناقص بالذات مفتقر إلى الكمال.
أمّا أصحاب الجدال فيقولون: لماذا لا يجب أن يكون النور الناقص كمالاً، ولا يكون مفتقراً للكمال؛ لأن الافتقار إنّما يكون في الأمر الممكن؟ وإذا سلّمنا بأنه يفتقر إلى الكمال فلماذا لا يمكن أن يكون النور الناقص ـ وإن كان مفتقراً ـ غير مفتقرٍ إلى الكمال، ولا يكون نوراً كاملاً بذاته، بمعنى ألّا يكون كلا النورين كاملين؟.
ونقول: إن العقلاء من المتكلّمين والمشّائين وغيرهم متّفقون بأجمعهم على أن النقص مستحيل في شأن واجب الوجود؛ لأن النقص يستلزم الإمكان. وبديهة العقل تحكم بأن كل خير هو مصدر الكمالات في عالم الوجود الّذي لا يفتقر إلى غيره، فهو في توابعه أيضاً لا يحتاج إلى غيره. وهذه الدعوى لاينفرد بها الإشراقيون وحدهم]([1]).
وأقول: الأصوب أن يقال في إثبات امتناع أفراد الواجب ـ على تقدير تعدّدها بالكمال والنقص على مذاق الإشراق ـ: إن الفرد الناقص لا يكون واجباً بالذات أصلاً؛ إذ الواجب بالذات لابد أن يكون غير [متناهٍ]([2]) في الكمال، بمعنى أنه لا يمكنه أن يتصور فوق مرتبته مرتبة اُخرى في الكمال، وأشد منها؛ فإنه لو لم يكن كذلك بل يكون متناهياً في الكمال، فيكون فوق مرتبته في الكمال مرتبة اُخرى ـ أو يمكن أن يتصور ذلك ـ لاحتاج بالضرورة إلى مخصّص قاهر، يخصّصه على تلك المرتبة المخصوصة، ويقهره على ذلك الحدّ المعين.
وهذه مقدمة إشراقية يحكم [بها]([3]) الذوق الصحيح، بل الفطرة السليمة لا تنكرها أيضاً، وما ينكرها إلّا من لم يكن له ذوق صحيح إشراقيّ فالمناقشة فيها غير مسموعة. قال في (الإشراق): فنور الأنوار شدته وكمال نوريّته لا تتناهى، فلا يتسلّط عليه بالإحاطة شيءٌ، واحتجابه عنّا إنما هو لكمال نوره وضعف قوانا، لا لخفائه، فلا تتخصّص شدته عند حد يمكن أن يُتوهّم وراءه نور، فيكون له حدّ وتخصص مستدعٍ لمخصّص، وقاهر له يقهره ذلك الحد، فلا يتجاوز منه. وهو محال بل هو القاهر بنوره لجميع الأشياء.
وقال الشهرزوري في (الشجرة الإلهية): ولا يجوز أن تتخصص شدّة نوريّته عند حدّ بحيث يمكن أن يتوهّم أن وراءه نور؛ فإنه لو كان كذلك لزم أن يكون له حدّ وتخصيص، فنستدعي مخصّصاً يكون أشد نوريّة وقاهراً له، بل هو القاهر بشدّة نوريته لجميع الأنوار. فالفرد الناقص يكون معلولاً البتة، فلا يكون واجباً بالذات قطعاً، وهو خلف.
ولا يخفى على اُولي النهى أن ما ذكرناه في امتناع تمايز أفراد الواجب على تقدير التعدّد بالكمال والنقص أصوب وأولى مما ذكره المحقّق الدواني في ذلك. وما أفاده في جواب الإيراد الذي أورده على الدليل [الذي] ذكره على هذا المدّعى، منظور فيه، فإن نقصان الناقص في حدّ ذاته ممنوع، وبالنظر إلى الكامل مسلّم، لكنه لا نسلّم أنه مخالف للاتفاق؛ إذ من المعلوم أنه ما وقع الاتّفاق على أنه لا يكون واجب أنقص من واجب آخر على تقدير تعدّده، وما وقع الاتّفاق على أن كلّ نقص مستلزمٌ للإمكان. وهل هذا إلّا أوّل المسألة؟ على أن الاتّفاق لو سلّم لا ينفع في هذا المقام.
ثم ما ذكره بقوله: (إن كل خير هو مصدر الكمالات في عالم الوجود الذي لا تفتقر إلى غيره فهو في توابعه أيضاً لا يحتاج إلى غيره) يدل على أنه ماعرف معنى الكمال والنقص على مذاقهم، فإن كلامهم كما صرّح به أيضاً في الكمال والنقصان في نفس الحقيقة، لا في توابع الوجود. وإذا كان كذلك فلا معنى لقوله هذا في هذا المقام أصلاً على ما لا يخفى على العارف بقواعد الإشراق.
يتبع…
______________________________
([1]) ورد هذا النصّ في المخطوط باللغة الفارسية، وخدمة للقارئ ترجمناه إلى اللغة العربيّة.