دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 08
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
النبي الأكرم| يرشد المستعطي الأنصاري
ومما يروى في هذا المجال ما ينقله بعض أصحاب السير من أن رجلاً من الأنصار أتى النبي| يوماً يسأله شيئاً من مال أو طعام له ولعياله، شاكياً إليه| سوء حاله، وفقره وفاقته، فقال له النبي الأكرم|: «أما في بيتك شيء؟». قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال|: «ايتني بهما». فأتاه بهما، فأخذهما رسول|، وقال: «من يشتري هذين؟». قال رجل: أنا آخذهما بدرهم. فقال|: «من يزيد على درهم؟». مرتين أو ثلاثاً، فقال رجل: «أنا آخذهما بدرهمين». فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال: «اشترِ بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدوماً فائتني به». فأتاه به، فشد فيه رسول الله| عوداً بيده، ثم قال له: «اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً».
فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله|: «هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع»([1]).
وهذا يعني أن على الإنسان المسؤول أن يستعمل صلاحياته في معالجة مثل هذه الحالات السلبية الطارئة على المجتمع سيما المجتمع الإسلامي، والتي لا يمكن أن تمت إليه بصلة أبداً.
العظة والعبرة من القصة
إن هذا التصرف من النبي الأكرم| قد أثار استغراب بعض الصحابة الذين يعرفون أن النبي| يباري السحاب المرسل، والبحر الخضم جوداً وسخاء، وكرماً وعطاء، لكنه مع ذلك امتنع عن أن يعطي هذا الفقير المحتاج شيئاً، بل إنه عدل معه إلى استعمال لون آخر واُسلوب جديد أدى في نهاية مطافه كما رأينا بعد ذلك إلى نتيجة إيجابية لم يكن هؤلاء الصحابة ليلتفتوا إليها لولا تصرف النبي الأكرم| هذا. فلولا استعماله هذا الاُسلوب التربوي الجديد مع هذا الرجل، لما تطوّر الأمر معه بشكل إيجابي إلى ما آل إليه بعدُ.
توزيع الأدوار
وبعد أن أخبر الرجل النبي الأكرم| قائلاً: قد ربحت عشرة دراهم في الأسبوع الأول التفت النبي إلى أصحابه ليبين لهم أن هذا هو الذي أراده من اُسلوبه التربوي الجديد الذي اتبعه مع هذا الرجل، وإلّا فإنه لو أعانه بدرهم أو بدرهمين، فإنه حتماً سوف يقوم بصرفهما وهدرهما بشراء طعام له دون أن يتمكن من أن يستحدث له مهنة أو عملاً يكفل له كل احتياجاته هذه طيلة ما تبقى من عمره سيما أنه كان رجلاً ذا جسم وصحة كبيرة، بل إنه كان مليئاً بالطاقة، ويسعه أن يعمل ويسد حاجته، بل حاجة المجتمع كذلك؛ حيث إنه يسد حاجته نتيجة بيعه ما به يشتري طعامه وطعام اُسرته، ويسدّ حاجة المجتمع حيث إنه ييسر له أمراً هو بحاجة إليه كالحطب الذي يكفيه مؤونة ترك الأفراد لأعمالهم ليذهبوا ويحتطبوا.
وهذه هي مسألة هامة تعني توزيع الأدوار والمهن والوظائف على أفراد البشرية كلّاً حسب طاقته، فكل ميسر لما خلق له؛ فهذا التوزيع والتنويع في الوظائف يكفل للمجتمع استمراريته واستمرارية حياته.
إذن فالنبي الأكرم| إنما أراد أن يبين لهذا ولأصحابه جميعاً بأنه يريد أن يربيه ويعلمه على أمر واحد هو ألّا يأكل من طريق غير عمله، وأن لا يملأ معدته من غير كد يمينه. وهذا الجانب يحرص الإسلام الحنيف على التأكيد عليه والتنبيه والإشارة إليه حرصاً كبيراً، وتأكيداً واضحاً وبالغاً؛ فيرى أن على الإنسان ـ إذا ما كان ذا قابلية على العمل ـ أن يسعى جهد إمكانه إلى تحصيل أي عمل مشروع يقوم به ليكفل من خلاله حاجاته، فإن لم يجد، وأعيته السبل عن تحصيل ذلك، فإن على المجتمع حينئذٍ أن يضمن له ذلك الحق، وأن يكفل له حاجاته الأساسية حيث يمنعه من أن يهدر كرامته بأن يمد يده إلى الآخرين.
يتبع…
________________
([1]) سنن أبي داود 1: 370 ـ 371 / 1641. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف 1: 591 / 1235، 2: 522 / 2605. نصب الراية 4: 482. العهود المحمدية: 133. وقريب منه في الفقه المنسوب للإمام الرضا×: 365. مستدرك الوسائل 7: 224 / 8094.