دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 07
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
النمط الثاني: العاجز عن القيام بعمل ما
وهذا الحال مع الكثير من الناس الذين يقومون في حال قوتهم وقابلياتهم بأعمال معينة كثيرة كالنجارة والفلاحة والزراعة، والصناعة، والتعليم، وغيرها من صنوف الممارسات والمهن التي يمكن أن يقوم بها الإنسان، لكنه بعد أن يمتد به العمر وتجري به السنون، فإنه يصبح حينها عاجزاً عن القيام بما كان يقوم به من عمل، فإن لم يكن قد وفر له ما يكفيه في أواخر أيامه، فإن على المجتمع حينئذٍ أن يمد له يد العون والمساعدة؛ ليعيش بقية أيامه بكرامة بعيداً عن الذل والهوان.
وهنا تكمن فلسفة الضمان، ذلك أن هذا الإنسان إذا ما أفنى شبابه وسنوات قوّته وطاقاته في خدمة المجتمع، فإنه وإن كان قد أخذ أجراً على ما أسدى المجتمع من خدمات كأخذ الأجر على ما قام به من أشياء عن طريق النجارة، أو ما باعه من المحاصيل نتيجة زراعته، أو ما قام به من تعليم أو تطبيب أو أي شيء آخر، لكنه في المقابل يبقى ذلك الإنسان الذي قدم خدمة للمجتمع قد استفاد منها فائدة كبيرة وقضى من خلالها الكثير حوائجه بغض النظر عن الأجر الذي أخذه إزاء قيامه بتلك الأعمال.
وبهذا التصوير والتقريب والتقرير تتجلى ـ كما ذكرنا ـ فلسفة الإسلام؛ حيث إنه لا ينظر إلى المسألة بمنظار من هذا المنظار ومن جانب واحد أو من زاوية واحدة بل إنه يمتد ليعمق هذه الفكرة، فيبتعد فيها عن رؤية ذلك الإنسان الذي لا تتجاوز نظرته موطئ قدمه؛ حيث إنه يرى أن هذا الإنسان قد قدم في يوم من الأيام خدمة لهذا المجتمع الذي عاش فيه، ورفده بما هيّأه الله تبارك وتعالى فيه من طاقات وقابليات لم يبخل بها على هذا المجتمع وإن كان قد أخذ أجرا إزاءه كما ذكرنا.
فكل هذه الأمور التي قام بها هؤلاء إنما هي مجهودات صبت في المجرى العام للمجتمع وقامت بخدمته وساهمت مساهمة كبيرة وفعالة في سيرورة حياته إذ هيّأت له كل تلك الجهود ما تمكن من خلاله أن يحيا حياة فضلى وعالية ومتطورة لولا هؤلاء لما عاشها ولما تقلب في نعيمها. إذن فهؤلاء قد رفدوا المجهود العام، وأغنوا المجتمع بأفكارهم وطروحاتهم ونظرياتهم ورؤاهم وصناعاتهم التي تقاضوا عليها أجراً، لكننا ربما نلاحظ أن ما تقاضوه عليه من أجر لا يمكن أن يأتي بمعشار ما عليه تلك الأمور الهامة والنافعة التي قدموها للمجتمع.
وبناء على هذه المعادلة التبادلية فإن الإنسان هذا في أيام قوته وشبابه حينما قام بخدمة المجتمع، فإن على المجتمع أن يقوم بخدمته ويقضي حاجاته وشؤونه في أيام عجزه وضعفه عن القيام بذلك، أي أن المجتمع لا تنفك عن عاتقه مسؤوليته الملقاة عليه عن هذا الإنسان، وضرورة قيامه على شؤونه. وهذا هو مفهوم الضمان الاجتماعي حيث إن مثل هؤلاء الأفراد يتعين ضمانهم على المجتمع سيما إذا ما كانوا قد قضوا حياتهم في خدمة هذا المجتمع، وأفنوا عمرهم في تقديم خبراتهم لرفاهية أفراده.
ونشير هنا إلى أن مثل الإنسان الذي يمتلك القابلية على العمل، لكنه لا يعمل، بل إنه يعيش عائلاً عليه، فإنه لا يستحق أي لون من ألوان الضمان الاجتماعي؛ لأنه بتصرّفه هذا يكون قد تسبب للمجتمع حينئذٍ بلونين من الخسارة، هما:
الأولى: الخسارة السلبية، وهي تخلّف ما عند الإنسان من قابليات وطاقات وقوى؛ سواء كانت عضلية أو عقلية فكرية عن أن ترفد المجتمع وتنفعه وتخدمه.
الثانية: الخسارة الإيجابية، ويتمثل هذا اللون من الخسارة بمساهمة هذا الإنسان في ازدياد عامل البطالة داخل المجتمع لامتناعه عن العمل، وهو ما يساهم من هذه الجهة أيضاً فضلاً عن الجهة الأولى المارة في النقطة الأولى في تأخير المجتمع وعدم تحريك عجلته الاقتصادية، وهو ما يؤدي إلى تخلفه، واحتياجه إلى الآخرين.
إن مثل هذا الفرد إنما يصبح عائلاً على المجتمع، بل علة عليه، حيث يسبب له ألماً ووجعاً أشرنا إليه من خلال النقطتين المارتين حول طبيعة الخسارة التي يتسبب بها لهذا المجتمع. ومثل هذا الشخص لابدّ أن يوجه أولاً، ويبين له خطأ ما هو عليه حتى ينتبه إلى خطئه، وبالتالي يغير من نهجه في هذه الحياة، ومن نمط حياته هذا، ليسعى دون حرج إلى نمط آخر يصب كله في صالحه وصالح مجتمعه الذي يعيش فيه ثانياً، فإن امتنع، فقد توجبت عقوبته ومساءلته مساءلة شرعية أو قانونية نتيجة هدره لما أودع الله فيه من قابليات وطاقات وقوى أراد الله له أن يستغلها في صالح نفسه وصالح مجتمعه لا أن يهدرها؛ فهو مثله حينئذٍ كمثل من يهدر أمواله دون وجه عقلائي أو عقلاني صحيح.
يتبع…