الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 11
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
والحاصل أن وحدة معنى الوجود والموجوديّة ضروري تحكم به الفطرة السليمة، بخلاف أجناس البسائط.
وبعد تقرير تلك المقدّمات نقول: الواجب بالذات بحكم المقدّمة الاُولى يجب أن يكون مجرّد ذاته وصرافة هويته ومحوضيّة حقيقته حيثية مصحّحة، لانتزاع الوجود، والموجودية الّتي هي معنى واحد محصّل عنه. فلو تعدّد أفراد الواجب بالذات لابد أن يتحقّق بينها ذاتي مشترك يمكن أن ينتزع من مجرّد نفس حقيقة كلّ منها المباينة لحقيقة الآخر، مع قطع النظر عن أمر مغاير لها مطلقاً ـ مفهومُ الوجود والموجودية الّتي هي معنى محصّل واحد لِما مرّ في المقدّمات الممهّدة. وذلك الذاتي المشترك إما أن يكون نفس حقيقة تلك الأفراد، أو جزأها، وعلى كلا التقديرين يلزم إمكان الواجب بالذات.
أما على التقدير الأول فظاهر؛ إذ يكون للواجب حينئذ مهيّة كلّيّة، وكونه ذا مهيّة كلّيّة مستلزم لإمكانه على ما حقّق في موضعه.
وأما على التقدير الثاني، فلأن الجزء المشترك بينهما ممكن بالضرورة، لما مرّ آنفاً، والجزء المختصّ بكلّ منها إن لم يكن واجباً بالذات أيضاً يلزم أن يكون حقيقة الواجب بالذات محض الممكنات، وهو مستلزم لإمكانه، وإن كان واجباً بالذات أيضاً، [فلابد]([1]) من تحقّق الجزء المشترك فيه أيضاً، والجزء المشترك ممكن بالضرورة، فيكون له جزء مختصّ واجب بالذات، والجزء المختصّ الواجب بالذات لابدّ أن يتحقّق فيه الجزء المشترك، فلابدّ له من جزء مختصّ واجب بالذات، فننقل الكلام إليه حتّى يذهب إلى غير النهاية.
فيلزم أن يكون للواجب أجزاء غير متناهية يكون لكلّ واحد من تلك الأجزاء أيضاً أجزاء غير متناهية. وذلك مستلزم لانتفاء الواحد، وانتفاء الواحد مستلزم لانتفاء الكثير؛ ضرورة أنه لو لم تتحقّق الواحدة لم تتحقق الكثرة أصلاً، وهذا خلف، فتأمل.
الثاني ممّا سنح لي أيضاً، وهو يستدعي تمهيد مقدّمتين:
المقدمة الاُولى
إذا استلزم أمر لمعنى وحال يجب أن يكون ذلك الأمر متعيّناً متميّزاً بدون ذلك المعنى، والحال؛ فإنه لو لم يكن لخصوصية ذلك الأمر مدخل في هذا الاستلزام كان كغيره، وإن كان له مدخل فيه يلزم تقدم تميّزه على ذلك المعنى والحال بالضرورة.
ومن ذلك يظهر أن الشيء لا يستلزم وجوبه؛ لأنه لو كان كذلك لزم تقدّم تميز ذلك الشيء ـ أعني: وجوده ـ على وجوبه، فإن الشيء لا يستلزم شيئاً إلّا بعد تميّزه وتعيّنه، لما مر. وهو ممتنع ممنوع؛ إذ الوجوب لو لم يكن مقدماً على الوجود على ما هو المشهور لم يكن مؤخّراً عنه البتة بالضرورة.
المقدّمة الثانية
الشيء لا يجب في مرتبة من مراتب الوجود، سواء كان وجوباً ذاتيّاً أو غيرياً، إذا تحقق غيره في تلك المرتبة إلّا إذا كان وجوبه بحسب نشأة معيّنة، ومرة مخصوصة مختصة به في تلك المرتبة؛ فإنه لو لم يكن كذلك ـ بل يكون وجوبه مطلقاً، غير مختصّ بنشأة دون نشأة، ومرّة غير مرة ـ لكان وجود غيره في تلك المرتبة منافياً لوجوبه فيها؛ فإنه حيث تحقّق الغير ووجد لم يتحقق، ولم يوجد هو فلا يكون وجوده في تلك المرتبة واجباً مطلقاً وإلّا لم يكن عدم تحقّقه في تلك المرتبة بوجه من الوجوه، بخلاف ما لو اختصّ وجوبه بنشأة معينة ومرة مخصوصة به في تلك المرتبة؛ فإن عدم تحققّه بحسب نشأة معيّنة اُخرى، ومرة مخصوصة غيرها لا ينافي وجوبه بحسب النشأة المعينة، والمرة المختصة به، وهو ظاهر.
وبعد تمهيد المقدمتين أقول: إذا تعدّد الواجب بالذات في مرتبة من مراتب الوجود كـ (أ) و(ب) فإن كان وجوب (أ) وجوباً غير مختصّ بنشأة معيّنة ومرة مخصوصة، وهكذا وجوب (ب) وجوباً مطلقاً غير مختصّ بالمرة المعيّنة والنشأة المخصوصة، لم يكن كلّ من (أ) و(ب) واجباً بالذات قطعاً؛ لما مرّ في المقدّمة الثانية آنفاً وإن كان وجوب (أ) في مرتبة مخصوصة وبحسب نشأة معيّنة، في تلك المرتبة لا غير.
وكذا وجوب (ب) بحسب نشأة معيّنة اُخرى، وفي مرّة مخصوصة غيرها، نقول: تعيين تلك المرّة التي اختصّ وجوب (أ) بها، وبحسبها وغيرها عن المرّة المختصة بوجوب (ب)؛ إما نفس حقيقة (أ) و(ب)، أو بغيرهما من الاُمور الخارجة عن حقيقتهما؛ فإن كان نفس حقيقة (أ) و(ب)، يكون لكلّ من حقيقة (أ) و(ب) مدخلاً في وجوبهما بالضرورة، فيلزم تميّز حقيقتهما قبل وجودهما، بل وجوبهما، وهو خلف؛ لما مرّ في المقدّمة الاُولى.
وإن كان تميّز مرتبة (أ) عن مرتبة (ب) بغير حقيقتهما، بل بأمر خارج عنهما، يكون لذلك الغير مدخلاً في وجوب (أ) و(ب) ووجودهما بالضرورة، فلا يكون (أ) واجباً بالذات، وكذا (ب)، وهذا خلف، فتأمّل تعرف.
عبارة اُخرى: إذا تحقق واجبان بالذات في مرتبة من مراتب الوجود، فأما أن يكون كلّ منهما واجب التحقّق في كلّ مرّة من مرّات الوجود المفروضة في تلك المرتبة، فيلزم إمكان كلّ منهما، بل يجب أن يكون كلّ منهما الآخر بالضرورة، وإما أن يكون كلّ منهما واجب التحقيق في مرّة غير معيّنة، وذلك ـ مع أنه غير معقول ـ مستلزم لإمكانهما أيضاً، وإما أن يكون كلّ منهما واجب التحقّق في مرة معيّنة ونشأة مخصوصة مغايرة لمرّة وجوب تحقّق الآخر، فننقل الكلام إلى ما يميّز إحدى المرّتين المخصوصتين عن الاُخرى، ويتمّ الكلام على ما مرّ، فتدبّر.
يتبع…
______________