الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 10

img

السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني

المقصد الثاني: في توحيد الواجب الحقّ تعالى

أعلم أن توحيده تعالى إمّا لحصر وجوب الذاتيّ فيه، أو لحصر خالقيّة العالم، أو لحصر المعبودية.

وأما الثالث فقد دلّ عليه الدلائل السمعيّة، وانعقد عليه إجماع الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وكلهم دعوا المكلّفين أوّلاً إلى هذا التوحيد، ونهوهم عن [الإشراك]([1]) في العبادة؛ فلا يحتاج إلى بيان.

وأمّا التوحيد بالمعنى الأوّل والثاني فنثبتهما في فصلين:

الفصل الأول في إثبات توحيده تعالى في الوجوب الذاتي.

أقول: تمام كلام أعلام أهل الحكمة والكلام في إثبات التوحيد بهذا المعنى غير تمام، وليس في شيء من الكتب المتداولة ما يفيده بوجه تامّ، وكل ما ذكروا لا يخلو عن شوائب الأوهام. وقد اهتديت بهداية الله تعالى بوجوه، [وجيهة]([2]) حسنة سديدة ونذكر منها عدة ([3]):

الأوّل: ماسنح لي فأقول:

مقدمة

الواجب بالذات لابدّ أن يكون مجرّد ذاته ونفس هويّته ومحض حقيقته من حيث هي مع قطع النظر عن غيرها مطلقاً حيث انتزاع الوجود والموجودية، وإلّا لم يكن واجباً بذاته؛ لما مر، بخلاف الممكن فإن نفس ذاته الّتي هي مهيّة ليست حيثيّة مصحّحة لانتزاع الوجود، والحيثيّة المصحّحة مغايرة لها مكتسبة من الفاعل على ما صرّح به المحقّق الدواني، فالممكن شيء موجود والواجب موجود بحت، إذ نفس حقيقته من حيث هي مصحّحة لانتزاع الوجود والموجودية، إنما ينتنزع من نفس حقيقته ومحوضيّة ذاته وصرافة هويته بلا اعتبار نسبته، وارتباطه إلى أمر مغاير له مطلقاً.

فحقيقته من حيث هي محض حثيثية انتزاع الوجود عنها، ومصداق لصدق الموجود عليها، وهي [معرّاة]([4]) عن ملابسته بالقوة والإمكان، أعني: الماهيّة.

والحاصل أن الوجود والموجود كما [يطلقان]([5]) على هذين المفهومين بالبديهة، كذلك [يطلقان]([6]) على حيثية انتزاعهما، ومصداق صدقهما، بل هي الوجود الحقيقيّ حقيقة. والمراد بالمهيّة: ما يكون في حدّ ذاته معرّى عن تلك الحيثيّة ـ أعني: حيثيّة انتزاع الوجود ـ فهي بإزاء الوجود بهذا المعنى، ومقابل له([7]). ولما كان الواجب نفس ذاته ـ من حيث هي حيثية انتزاع الوجود ـ ومصداق لصدق الموجود لا يكون له مهيّة بهذا المعنى، بل يكون موجوداً بحتاً؛ إذ ليس نفس ذاته إلّا الوجود الحقيقي ـ أعني: حيثية انتزاع الوجود ـ بخلاف الممكن؛ فإنه مشتمل على ما هو معرّىً في ذاته بدون اعتبار الغير عن حيثيّة انتزاع الوجود، وعلى تلك الحيثية أيضاً باعتبار الفاعل؛ فإنها مكتسبة منه على ما تقدّم، فهو مهيّة موجودة، والواجب موجود بحت.

مقدمة ثانيّة

لا يمكن أن ينتزع من نفس حقيقة اُمور مختلفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتيّ أصلاً مع قطع النظر عن غيرها مطلقاً ـ أمرٌ واحد محصّل بعينه، أي لا يكون حقائق مختلفة من حيث إنها مختلفة منشأً وموجباً لحصول معنًى واحد محصّل بعينه في العقل. والمنازع في ذلك يكابر مقتضى عقله؛ فإن الفطرة السليمة حاكمة بأن الاُمور المختلفة المتباينة باعتبار محض ذواتها المتباينة لا يكون مبدأ ومنشأ وباعثاً لانتزاع معنى واحد محّصل بعينه عنها، ولا يصح أن يكون مصداقاً لصدق مفهوم واحد بعينه عليها، بل المفهوم المحصّل الواحد لا يمكن أن ينتزع من الاُمور المتعدّدة، إلّا إذا كانت تلك الاُمور متماثلة، أو مشتملة على الاُمور المتماثلة أو يكون الاختلاف بين تلك الاُمور المتباينة مثبتة إلى أمر واحد، أو اُمور متشابهة من حيث إنها كذلك. وأما بغير تلك الوجوه فلا يتصوّر ذلك قطعاً، والاُمور العامّة كالشيئيّة والإمكان ونظائرهما لا تنتزع من نفس الحقائق المتباينة، بل إنما تنتزع فيها باعتبار الوجود المشترك بينها، فإنها من لواحق الوجود.

وأمّا الوجود ومفهوم الموجود فإنما [ينتزعان]([8]) من الحقائق المتباينة باعتبار ارتباطها بالوجود الحقيقيّ الواحد، وأفراد المقول بالتشكيك على ما هو الحقّ مشتركة في تمام الحقيقة، وإنما الاختلاف بينها في نحو الحصول، والأجناس والفصول في المركبات الخارجية مأخوذة منتزعة من المادّة والصورة الخارجيّتين، اللتين كلّ منهما نوع بالقياس إلى أفرادهما. وفي البسائط الخارجية غير مشتركة حقيقة بل ممّا يتوهّم اشتراكها على ما حقّقه بعض الأعاظم، و[كنا]([9]) قد فصلنا ذلك في بعض رسائلنا، فارجع إليه.

مقدمة ثالثة

الوجود والموجوديّة معنى واحد محصّل مشترك بين جميع الموجودات بالضرورة، يدلّ على ذلك الدلائل والتنبيهات التي [هي] مذكورة في كتب القوم([10])، مشهورة بين الطلاب.

لا يقال: لم لا يجوز أن يكون الوجود والموجوديّة كالجنس مثلاً في البسائط الخارجيّة [فإنه] لا يكون مشتركاً حقيقة، بل ممّا يتوهّم اشتراكه لعدم التمييز؟.

لأنا نقول: الوجدان حاكم [باحتياج]([11]) الممكن منها في ذلك المعنى إلى علة ومؤثّر، ويستغني الواجب فيه بعينه عن العلّة والمؤثر مطلقاً، والمنازع مكابر.

يتبع…

__________________

([1]) في المخطوط: (الاشتراك).

([2]) في المخطوط: (وجيه).

([3]) في المخطوط بعدها: (منها).

([4]) في المخطوط: (معرى).

([5]) في المخطوط: (يطلق).

([6]) في المخطوط: (يطلق).

([7]) أي ومفهوم مقابل له.

([8]) في المخطوط: (ينتزع).

([9]) في المخطوط: (كانا).

([10]) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 1: 39.

([11]) في المخطوط: (بوحدة).

الكاتب السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني

السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني

مواضيع متعلقة