الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 09
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
وإذا عرفت هذه المقدّمة نقول: لا ريب في أنه للواجب تعالى نسبة إلى معلولاته، هي نسبة العلّيّة والمعلولِيّة والإيجاد، وهو ظاهر. وعند تدقيق النظر تظهر أن له نسبة الوجود والإنيّة إلى معلولاته كما ذكرنا أيضاً، فلابد ـ بناءً على المقدمة الثابتة أن يكون نسبة الوجود والإنيّة، بعينها نسبة العلّيّة والمبدئيّة. بل نقول: [بناءً] على ما حقّقناه يتّضح أن الإيجاد والعلّيّة إنما هي إفادة الفاعل الموجد نفس ذات المعلول الممكن متعلّقاً مرتبطاً بنفسه؛ لأن الصورة المتصورة في كيفيّة الإيجاد منحصرة في ثلاث: فإنه إمّا بإفادة الفاعل نفس ذات المعلول مبايناً.
وإمّا بإفادته أمراً ينضمّ إليه عن الوجود وإفاضته عليه فيضاناً مبايناً لذاته.
وإمّا بإفادته المعلول حال كونه متعلقاً مرتبطاً بنفسه.
لا سبيل إلى الأوّل؛ لما مرّ من أن الممكن الّذي ليس في نفسه مبدأ لانتزاع الموجودية لا يصير موجوداً ومبدأ لانتزاعه بمجرّد إفادة الفاعل نفس ذاته المباينة له، ولا إلى الثاني أيضاً لأن الضميمة ـ وهي الوجود كما مرّ ـ ممكنة تحتاج في الوجود إلى وجود آخر، لما مرّ مشروحاً، فيتسلسل الأمر إلى غير النهاية.
فبقي أن يكون بإفادة الفاعل نفس ذات المعلول متعلقاً مرتبطاً بنفسه، وجعله مرتبطاً بذاته لا بإفادته مبايناً لذاته فيجب بالضرورة أن يكون نسبة العلّيّة والإيجاد بعينها نسبة الوجود والإنيّة. وإذا كانت كذلك، فلا يلزم من كون وجود الممكنات بارتباطها إلى الواجب الحقّ تعيّن النسبة بينه وبين الممكنات، ولا كونه موجباً لشيء وغير موجب له أصلاً؛ فإن نسبة العلّيّة والإيجاد بعينها نسبة الإنيّة والوجود على ما عرفت».
وما ذكره من أن إنيّة الشيء لا توجبه ولا توجده غير ممنوع في الإنيّة بهذا المعنى، بل الموجب للشيء الموجد له إنما هو تلك الإنيّة، فلا يمكن أن يبين بمثل ما بيّن [من] أن الفاعل لا يكون فاعلاً لأثره [لأن]([1]) الموجب الموجد للشيء غير إنيّته التي بها وبتعلقها يصير موجوداً.
وتحقيق الكلام في المقام أنه كما عرفت في المقدمة لا يمكن أن يكون للواجب إلى غيره من معلولاته إلا نسبة واحدة. ولا ريب في تحقق نسبة المبدئيّة والعلّيّة بينه وبينها، فكلّ نسبة اُخرى يدلّ على تحقّقها [برهان] عقليّ أو نقليّ لابد أن يرجع إلى تلك النسبة. فنسبة الإنيّة والوجود الّتي يدلّ عليها ما ذكرناه من البرهان يرجع إلى نسبة المبدئيّة، وكذا نسبة المعيّة المدلول عليها بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُم﴾([2]) ترجع إليها.
فللواجب نسبة خاصّة وارتباط مخصوص بما سواه من معلولاته، هي باعتبار نسبة العلية والإيجاد، وباعتبار نسبة الإنيّة والوجود، وباعتبار نسبة المعية والقرب، وليس بينها تغاير بالذات أصلاً. فما ذكره العلاّمة النيشابوري في تفسيره من أنه لا ذرة من ذرات العالم إلّا ونور الأنوار محيط بها قاهر عليها أقرب من وجودها إليها، لا بمجرد العلم فقط، إلّا بمعنى الصنع والإيجاد، بل بضرب آخر لا بكشف المقال عنه غير الخيال محلّ تأمل؛ فإنه نسبة الواجب إلى ما سواه لا يمكنه أن يكون إلّا نسبة واحدة، وهي نسبة الصنع والإيجاد باعتبار، ونسبة المعية والقرب باعتبار، بل نسبة العلم أيضاً باعتبار، فتدبر تعرف.
ومن هذا التحقيق الّذي هو حقيق بالتصوّر يظهر جواب الإشكال الثاني أيضاً؛ فإن وجود الشيء بهذا التقدير لا يكون مفارقاً ومبايناً له بالكلّيّة، ثم ماذكره من (أن وجود الشيء وصف وصفه له) إنما يسلم في الوجود الاعتباري لا في الوجود بهذا المعنى.
وأما الجواب عن الإشكال الثالث فيتّضح بما أقول، وهو أن الحقّ أن التعلّق بين أمرين لا يجب أن يكون متأخّراً عنهما، وليس تعلّق شيء لشيء وارتباطه به فرعاً لثبوت شيء من الطرفين، ولا محذور في الاستلزام المسلّم؛ فإن وجود الممكنات بالمعلول، إنما هو بعينه ارتباطها وتعلّقها بواجب الوجود، فلا يصح أن يقال: إنها وجدت ثم ارتبطت وتعلّقت بواجب الوجود، كما لا يصح: أنها ارتبطت وتعلّقت بواجب الوجود، ثم وجدت، بل تصير موجودة حال كونها مرتبطة بواجب الوجود، فيكون وجودها منه تعالى هو بعينه الارتباط، والتعلّق به.
ثم إن تعين المعلول و[تخصصه]([3]) أيضاً يعيّنه الارتباط والتعلّق به تعالى، إذ تعيّن المعلول وتميّزه بعينه وجوده ـ أعني: تعيّنه به تعالى ـ فلا يلزم أن يكون متعلَّقاً قبل كونه متعلِّقاً، فتأمل.
يتبع…
__________________