الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 08
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
عبارة أخرى أخصر: كلّ ممكن سواء كان وجوداً أو ماهيّة ليس في حدّ ذاته بذاته موجوداً ـ يعني: ليس مصداق موجوديّته، ومنشأ انتزاع وجوده نفس ذاته ـ فإذا وجد فقد صار مبدأ الانتزاع الوجود بعدما لم يكن في نفسه كذلك، وليست هذه الصيرورة إلّا تغيّراً عمّا كان عليه في نفسه بالضرورة. كما أنه لابدّ في كل تغيّر منه متغيّر وفاعل له، ولهذا يحتاج كلّ ممكن إلى علّة، وكذلك لابدّ فيه ممّا به التغيّر من ضم ضميمة إليه، أو ارتباطه بأمر آخر بالبديهة. والمنازع يكابر مقتضى عقله.
فكلّ ممكن يحتاج في الوجود إلى ما به التغيّر أيضاً، وما به التغيّر لابدّ ألّا يكون متغيّراً أصلاً، وإلّا لاحتاج إلى أمر آخر به يتغيّر عمّا كان عليه في نفسه، فيلزم التسلسل، وإذا لم يكن متغيّراً يكون واجباً؛ ضرورة أن كل ممكن موجود متغيّر عمّا كان عليه في نفسه، وإذا كان واجباً لا يمكنه أن يتغيّر الممكن بانضمامه إليه.
إذن الواجب لا يمكنه أن ينضمّ إلى شيء أصلاً، بل لابد أن يتغيّر الممكن بارتباطه إليه ارتباطاً خاصّاً لا يعرف كنهه، وهو المطلوب.
ثم أقول: لا يبعد أن يعبر عن هذا البرهان بعبارة اُخرى أقرب إلى مدارك الأقوام من الأعلام، وذلك بأن يقال: إن الممكن المعلول حين الوجود إما ألّا يكتسب من الفاعل حيثيّة مصحّحة لانتزاع الوجود عنه، أو يكتسب. فإن لم يكتسب فقد بقي على ما كان عليه في نفسه من عدم صلاحيّته لانتزاع الوجود عنه، فما صار موجوداً بعد بالضرورة، وهذا خلف، وإن اكتسب من الفاعل تلك الحيثيّة على ما صرح به العلّامة الدواني ونقلنا عنه فنقول: هذه الحيثيّة [ليست]([1]) نفس ذاته من حيث هي، وإلّا لكان واجباً بالذات؛ لما مرّ غير مرة، فلابد أن يكون غير نفس ذاته.
وعلى تقدير الغيرية إما أن يكون أمراً عينيّاً، أو يكون أمراً انتزاعيّاً، ولو كانت أمراً انتزاعياً فلابدّ أن تكون نفسَ أمريّ بالضرورة، ولو كانت نفس أمري لاحتاجت لنفس أمريّته على مبدأ موجود عيني؛ إذ لا معنى للنفس الأمري إلّا ذلك. وذلك المبدأ الموجود ليس نفس ذات الممكن من حيث هي وإلّا لكان واجباً بالذات، ولا ذاته من حيثية اعتبارية اُخرى وإلّا نقل الكلام إليها حتى يتسلسل. ويؤدّي ذلك إلى كونها غير نفس أمري؛ لما سبق مفصّلاً، بل يجب أن يكون لها مبدأ عينيّ غير نفس ذات الممكن أيضاً.
فتلك الحيثية المكتسبة إما هي نفسها موجود عيني غير ذات الممكن، أو لها مبدأ انتزاع عيني غير ذاته، وعلى التقديرين لابد أن يكون ذلك الأمر العيني [غير]([2]) مباينٍ في الوجود للممكن الموجود كل المباينة، لأن حيثيّة انتزاع الوجود عن أمر أو ما هو مبدأ تلك الحيثية لا يمكن أن يباينه بالضرورة، بل لابد أن يكون منضمّاً إليه أو مرتبطاً به، وعلى كلا التقديرين لا يكون ممكناً، وإلّا ننقل الكلام إليه فيتسلسل، بل لابد أن يكون واجباً. والواجب لا ينضمّ إلى الممكن الموجود أصلاً لامتناعه قطعاً، بل لابد أن يكون الممكن الموجود مرتبطاً به ارتباطاً لا بطريق الحالّيّة أو المحلّيّة؛ لامتناعهما في الواجب، على ما بُيّن في موضعه، بل ارتباطاً خاصّاً وانتساباً مخصوصاً لا يعرف كنهه، ويكون ارتباطاً به حيثيّة مصحّحة لانتزاع الوجود عنه، مكتسبة من موجوده وفاعله. وهذا ما أردناه، فتدبر.
رفع شكوك وأوهام بها تتّضح حقيقة المرام في المقام.
أعلم أن بعض الأعاظم من الأعلام أورد على المذهب المختار ـ من أن الواجب وجوده حقيقيّ، والممكنات موجودة بالارتباط به والانتساب إليه ـ وجوهاً من [الإيرادات]([3]) منها أن كون الممكنات موجودة بالانتساب إليه تعالى مستلزم إنيّة لمعلوله الأوّل. ولا يجوز ذلك؛ فإن الواجب موجب المعلول الأول وموجده، فلو كانت إنيته الّتي تتعلّقه [موجودة]([4]) يلزم تعيّن آثار الواجب من جميع الوجوه، فإن الإيجاد والإيجاب غير كون الشيء به موجوداً فيلزم التعيّن.
وأيضاً لو كان الواجب الموجد هو بعينه ما صار به موجوداً لزم أن يكون أمر واحد بعينه، موجباً وغير موجب لشيء بعينه. فبمثل ما تبيّن أن الفاعل لا يكون قابلاً لأثره تبيّن أن الموجب الموجد للشيء غير إنيته الّتي بها، وبتعلّقها يصير موجوداً؛ فإن إنية الشيء لا توجبه ولا توجده.
ومنها أن الفطرة الصحيحة حاكمة بأن وجود الشيء لا يكون مفارقاً له؛ فإن وجود الشيء وصف وصفه له، ولا يكون صفة شيء مفارقاً عنه كل في عالم آخر.
ومنها أن الاتّصاف ـ أي التعلق ـ بين أمرين تتأخّر عنهما، وإن موجد الشيء وفاعله هو المنشأ المتعلق ذلك الشيء به، وكما يقولون: إن ثبوت شيء لآخر فرع ثبوت المثبت له يكون تعلق شيء بآخر فرع ثبوت ذلك الآخر. ولو توهّم أن المهيّة تتعلّق بالوجود وليس لفرع ثبوت المتعلّق ـ بكسر اللام ـ فبعد الإغماض عن هذا القول: إن المهيّة المعدومة من بين المعدومات، كيف يتخصّص بأن يتعلّق بالوجود؟.
فإن قيل: إن الوجود الفاعل يعيّنه ويخصّصه ويجعله متعلّقاً بنفسه.
قلنا: إن هذا التعيّن والتخصّص تعلّقٌ ما، فيكون متعلِّقاً قبل كونه متعلَّقاً، فافهم.
وأقول: تحقيق الكلام في المقام ـ بحيث تندفع عنه هذه الشكوك والأوهام ـ يستدعي تمهيد مقدمة هي أنه يمتنع أن يكون للواجب على ما سواه من معلولاته إلّا نسبة إضافيّة واحدة، وإلّا لاختلفت الجهات والحيثيات في ذاته تعالى، وهو ممتنع ممنوع. قال العلّامة الشيرازي في (شرح الإشراق): «ومما يجب أن نعلمه أنه لا يجوز أن نُلحق للواجب إضافات مختلفة، توجب اختلاف حيثيّات فيه، بل له إضافة واحدة ـ هي المبدئية ـ تصحّح جميع الإضافات كالرازقيّة والمصوّريّة وغيرهما.
يتبع…
_______________