الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 07
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
فإن قيل: العمى أمر اعتباريّ نفس أمريّ، وليس له مبدأ موجود يكون بذاته منشأً لانتزاعه.
قلنا: بل له مبدأ موجود هو بذاته منشأ انتزاعه، أعني الهوية الشخصيّة للأعمى، على ما صرّح به المحقّق الدواني في حاشيته على (التجريد)، فإنه قال: «مصداق الحمل في قولك: زيد أعمى، هو زيد بحسب وجوده في الخارج، فإنه في ذلك الوجود على وجه يصحّ للعقل انتزاع تلك الصفة عنه، بأن يقاس بينه وبين البصر فيجده مسلوباً عنه بالفعل، ثابتاً له بالقوّة النوعية؛ فيحكم عليه بأنه متّصف بالعمى حكماً صادقاً لوجود موصوفه في الخارج على وجه يصحّ للعقل انتزاع تلك الصفة عنه، والحكم بثبوتها له.
وظاهر أن صدق هذا الحكم لا يقتضي ثبوت أمر سوى الموصوف المعيّن على الوجه الخاصّ؛ إذ لاحظّ للسلب من الوجود الخارجيّ، إلّا أنه منتزع عنه أمر موجود في الخارج»، انتهى كلامه، وهو صريح فيما ذكرنا.
وإن كان ذلك المبدأ ليس نفس ذات الممكن من حيث هي، ولا هي من حيثيّة اُخرى، بل غيرها يرجع إلى الاحتمال الأوّل، فينتقل الكلام إليه حتّى يتسلسل.
ثم إنا ننقل الكلام إلى مجموع تلك الاُمور الغير المتناهية، فنقول: ليس ذلك المجموع مبدأً لانتزاع الموجودية بنفس ذاته من حيث هي هي؛ لإمكانه، فيحتاج إلى أمر آخر، وهذا خُلف. فبقي أن يكون تغيّر الممكن عمّا كان عليه في نفسه من عدم صلاحيّته لانتزاع الوجود إلى صلاحيته لذلك حين الوجود بارتباطه بأمر آخر، ولا جائز أن يكون واجباً بالذات.
فثبت أن موجودية الممكنات إنما هي باعتبار ارتباطها بالواجب بالذات الّذي هو نفس الوجود الحقيقيّ الّذي هو بذاته منشأٌ ومبدأ لانتزاع الموجوديّة، ومصحّح لصدقها. فهو الموجود والوجود الحقيقيّ، وغيره إنما هو موجود باعتبار الارتباط به، والانتساب إليه ارتباطاً خاصاً وانتساباً مخصوصاً يمكن أن يتحقّق بين الواجب والممكنات، لا بالحالّيّة والمحلّيّة؛ لا متناعهما، على ما حقق في موضعه، وهو المطلوب.
فإن قيل: قد قيل: إنه ليس في الممكنات شيء يوجد فيه الوجود والموجودية وراء نفس الذات الواقعة، كالإنسانيّة والفرسيّة، وقال: العلّامة الدواني في بعض حواشيه على (التجريد): «والتحقيق كما عرفت أن الوجود ممّا شرعه العقل من المهيّة ويصفها به، ومصداق ذلك الوصف هو عين المهيّة».
قلت: لا ريب في أن المأخوذ منه الوجود والموجودية ومصداقهما ليس نفس المهيّة من حيث هي، وإلّا لكان واجباً بالذات على ما مرّ غير مرّة. بل مرادهم: أن المهيّة الممكنة من حيث انتسابها إلى الفاعل مبدأ لانتزاع الوجود، ومصداق لوصف الموجوديّة، فالوجود والموجودية منتزعة من ذات الممكن، باعتبار نسبتها إلى الفاعل، على ما صرح به المحقق الدواني([1]).
وحينئذٍ نقول: تلك النسبة المتحقّقة بين ذات الممكن وبين الفاعل الّتي باعتبارها شرع فيها الوجود، هل هي نسبة خاصّة، وتعلّق وارتباط مخصوصة، شبّههُ بالانضمام بوجه لا يكون لذات الممكن باعتبارها هوية مستقلّة مباينة للفاعل كلّ المباينة، وبحيث لا يمكن أن يشار إليها إشارة عقليّة مستقلّة تكون ممتازة في تلك الإشارة عنه، فيكون موجباً لتغيرٍ في نفس ذاته، أو نسبة بين ذات الممكن المستقلّ في الهويّة، الممتاز في الإشارة عن غيرها، وبين الفاعل المباين لها على ما هو المشهور المقرّر؟.
فإن كانت تلك النسبة هي النسبة المخصوصة بالوجه الّذي مرّ أوّلاً، ثبت المطلوب؛ فإنا ما ادّعينا إلّا ذلك، وهو ظاهر. وإن كانت هي النسبة المتحقّقة بين ذات الممكن والفاعل المباين لها بالوجه الّذي مرّ [ثانياً]([2])، فأقول: الفطرة الصحيحة حاكمة بأن نفس ذات الممكن المستقلّ إذا لم تكن مأخوذة من حيث هي مبدأ لانتزاع الوجود ومصداق لصدق الموجودية لا تصير بمجرد حصول نسبة بينهما وبين الأمر المباين لها بالكلّيّة من غير تغيّر فيهما مبدأً لانتزاعه، ومصداقاً لصدقها، بل لابدّ لصحّة انتزاع الوجود عنها من تغيّر في نفس ذاتها بالضرورة.
والحاصل أن ذات الممكن من حيث هي إن كانت مبدأ لانتزاع الوجود يكون بذاته متحيّزاً متحصّلاً مستغنياً عن الجاعل والفاعل بالضرورة، وإن لم يكن من حيث هي كذلك لا تصير كذلك بمجرد حصول نسبة بينها وبين الوجود. إلاّ إنه إذا تحصّلت وتقرّرت في الخارج، وبسبب الفاعل وجعلها إيّاها جعلاً بسيطاً تصير مبدأ لانتزاعه.
قلت: نحن نعلم بالضرورة أنها إذا لم تكن مأخوذةً بذاتها مبدأ لانتزاعٍ الوجود، لا تصير بمجرد تقرّر نفس تلك الذات الّتي ما كانت مأخوذة بذاتها مبدأً له، وقد بقيت ـ على ما كانت عليه في نفيها من غير تغيّر فيها ـ مبدأ لانتزاعه، وكيف يجوّز عاقل ألّا يكون أمر واحد تارة مصداقاً لأمر ومبدأ لانتزاعه أصلاً، وهو بعينه يصير تارة اُخرى بدون حصول تغيّر في نفسه مصداقاً له ومبدأ لانتزاعه؟ لا أظنك في مرية من هذا.
وتوضيح ذلك بعبارة أخرى أن حقيقة الشيء وذاته بمحض إفادة الفاعل وإفاضة نفسها من الخارج، بلا تغيّر وانضمام أمر آخر إليها، لا يتّصف من الخارج، بمجرّد تلك الإفادة والإفاضة إلّا بما كان مقتضى تلك الحقيقة، أو بما كان لازماً لها، أو بما يكون نفس تلك الحقيقة مصداقاً له بالضرورة، ولا يتّصف بغير ما ذكر قطعاً. فنفس حقيقة الممكن وذاته إذا كانت فائضة من الفاعل في الخارج ومتقرّرة فيه بلا انضمام معنىً آخر إليه، أو ارتباطه بها لمّا لم تكن مقتضية للوجود والموجوديّة، وليست هي ـ مصداقاً لهما بنفسها، ولم يكن الوجود والموجودية لازماً لها من حيث هي لا تتّصف في الخارج بمجرد [تلك]([3]) الإفاضة والإفادة بالموجودية قطعاً، ولا تصير مبدأ لانتزاعها أصلاً؛ بل تبقى بعد الإفاضة على ما كانت عليها في نفسها من حيث هي بالضرورة. والمنازع مكابر، فتدبّر تعرف.
يتبع…
__________________
([1]) في المخطوط بعده الرمز: (س).
([2]) نسخة بدل من هامش المخطوط، وما في المخطوط: (آنفاً). وقد ارتأينا إثبات ما في الهامش ـ وهو قوله: ثانياً ـ دون ما في المتن؛ لأنه أشار إلى الأوّل بلفظة (أوّلاً) من قوله: (بالوجه الّذي مرّ أوّلاً).