دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 04
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
الشافعي والمشورة
وهذا ما يأخذ بأيدينا إلى أن نقول بأن هناك أمراً مهماً، وهناك أمراً أهم منه، فإذا كان أمر إرشاد الإنسان ووعظه وتوجيهه وتعليمه أمراً هاماً ومطلوباً، فإنه لا يكون كذلك في كل حين، أي أنه لا يكون مطلوباً في كل حين؛ إذ إن بعض الأحايين لا يمكن القيام بهذا الوعظ والإرشاد مع الإنسان، وهي الأحايين التي يكون فيهاً جائعاً، وحينئذٍ يتوجه على الداعي أن يتوجه إلى إشباع ما هو أهم عند الإنسان وهو سد جوعه، والقضاء على فقره، فإذا ما ملئت له معدته فإنه سوف يتمكن من أن يتوجه إليه بالكلام والنقاش وما إلى ذلك؛ وهذا ما يقودنا إلى الاعتقاد بأن التوجيه والنصح والوعظ والإرشاد وإن كانت أموراً هامة، لكن إشباع غرائز الإنسان يعد أمراً أهم منها.
وهنا تحضرني مقولة للشافعي كان يرددها وهي قوله: لا تشاور من لا دقيق عنده. فقيل له: لماذا؟ قال: لأنه لا منطق عنده([1]). فالشخص الجائع بناء على رأيه لا يمتلك القدرة على الإشارة الصحيحة، أو على اختيار ما هو صحيح ومناسب؛ سواء كان له هو نفسه، أو لمن استشاره؛ لأنه حينئذ لا يمكن أن يكون مطمئن الفكر، هادئ البال، مستقر الخاطر.
أمير المؤمنين عليه السلام والمقداد (حديث الدينار)
وهذا الأمر لا يختص بعامة الناس دون خاصتهم، بل إننا نجد أنه موجود حتى عند خاصة صحابة رسول الله| حينما يتعرضون إلى مثل هذه الحالة كما يروي لنا التاريخ ذلك من خلال القصة المشهورة بين أمير المؤمنين× وبين المقداد ابن الأسود الدؤلي، يقول المؤرخون: روي عن أبي سعيد الخدريّ (رضي اللّه عنه) أنه قال: أصبح عليّ بن أبي طالبٍ× ذات يومٍ فقال: «يا فاطمة، عندك شيء تغذّينيه؟». قالت: «لا والّذي أكرم أبي بالنّبوّة، وأكرمك بالوصيّة، ما أصبح الغداة عندي شيء أغذيكه، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلّا شيء كنت أوثرك به على نفسي وعلى ابنيّ هذين الحسن والحسين». فقال أمير المؤمنين×: «يا فاطمة، ألا كنت أعلمتني؛ فأبغيكم شيئاً؟». فقالت: «يا أبا الحسن، إنّي لأستحيي من إلهي أن تكلّف نفسك ما لا تقدر عليه».
فخرج× من عندها واثقاً بالله، فاستقرض ديناراً، فبينا الدّينار في يده وهو× عائد يريد أن يبتاع به لعياله ما يصلحهم، إذ تعرّض له المقداد بن الأسود الكندي (رضي الله عنه) في يومٍ شديد الحرّ، قد لوّحته الشّمس من فوقه، وآذته من تحته، ولم يلتفت إلى الإمام، ولم يُلقِ عليه التحية والسلام، فلمّا رآه× أنكر شأنه، فقال: «يا مقداد، ما أزعجك هذه السّاعة من رحلك؟». قال: يا أبا الحسن، خلِّ سبيلي، ولا تسألني عمّا ورائي. فقال×: «يا أخي، إنّه لا يسعني أن تجاوزني حتّى أعلم علمك». فقال: يا أبا الحسن، رغبةً إلى اللّه وإليك أن تخلّي سبيلي، ولا تكشفني عن حالي. فقال× له: «يا أخي، إنّه لا يسعك أن تكتمني حالك». فقال: يا أبا الحسن، أمّا إذا أبيت، فوالّذي أكرم محمّداً| بالنّبوّة، وأكرمك بالوصيّة، ما أزعجني من رحلي إلّا الجهد، وقد تركت عيالي يتصارخون جوعاً، فلمّا سمعت بكاء العيال، لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً راكباً رأسي.
فانهملت عينا الإمام× بالبكاء حتّى بلّت دمعته لحيته، فقال له: «أحلف بالّذي خلقك، ما أزعجني إلّا الّذي أزعجك من رحلك. وقد استقرضت ديناراً، فهاكه؛ فقد آثرتك على نفسي». فدفع الدينار إليه ورجع حتّى دخل مسجد النّبيّ|، فصلّى فيه الظّهر والعصر والمغرب، فلمّا قضى رسول الله| المغرب، مرّ بعليّ بن أبي طالبٍ× وهو في الصّفّ الأوّل، فهمزه برجله، فقام عليّ× مقتفياً أثر رسول الله| حتّى لحقه على بابٍ من أبواب المسجد، فسلّم عليه، فردّ رسول الله|، فقال: «يا أبا الحسن، هل عندك شيء تعشّيناه؛ فنميل معك؟».
فمكث× مطرقاً لا يحير جواباً؛ حياءً من رسول الله|، وهو يعلم ما كان من أمر الدينار، ومن أين أخذه، وأين وجّهه، وقد كان أوحى الله تعالى إلى نبيّه| أن يتعشّى الليلة عند عليّ بن أبي طالبٍ×. فلمّا نظر رسول الله| إلى سكوته، قال: «يا أبا الحسن، ما لك لا تقول: لا؛ فأنصرف عنك، أو تقول: نعم؛ فأمضي معك؟». فقال×: «حبّاً وكرامةً. فاذهب بنا».
فأخذ رسول الله| بيد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×، فانطلقا حتّى دخلا على فاطمة الزّهراء÷، وهي في مصلّاها قد قضت صلاتها، وخلفها جفنة تفور دخاناً، فلمّا سمعت كلام رسول الله| في رحلها خرجت من مصلّاها، فسلّمت عليه، وكانت أعزّ النّاس عليه، فردّ عليها السلام، ومسح بيده على رأسها، وقال لها: «يا بنتاه، كيف أمسيت رحمك اللّه تعالى؟ عشّينا غفر اللّه لك، وقد فعل».
فأخذت÷ الجفنة، فوضعتها بين يدي رسول الله| وعلي بن أبي طالب×، فلمّا نظر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ× الطّعام، وشمّ ريحه، رمى فاطمة÷ رمياً شحيحاً، فقالت له فاطمة الزهراء: «سبحان الله! ما أشحّ نظرك وأشدّه! هل أذنبت فيما بيني وبينك ذنباً أستوجب به السخطة؟». فقال×: «أليس عهدي إليك اليوم وأنت تحلفين باللّه مجتهدةً: ما طعمت طعاماً مذ يومين؟». فنظرت÷ إلى السّماء، وقالت: «إلهي يعلم في سمائه ويعلم في أرضه أنّي لم أقل إلّا حقّاً». فقال لها: «يا فاطمة، أنّى لك هذا الطّعام الّذي لم أنظر إلى مثل لونه قطّ، ولم أشمّ مثل ريحه قطّ، ولم آكل أطيب منه قطّ؟». فوضع رسول الله| كفّه الطّيّبة المباركة بين كتفي عليّ بن أبي طالب×، فغمزها ثمّ قال: «يا عليّ، هذا بدلٌ بدينارك، هذا جزاءٌ بدينارك من عند الله؛ إن الله يرزق من يشاء بغير حسابٍ».
ثمّ استعبر النبي| باكياً، ثمّ قال: «الحمد للّه الّذي أبى لكما أن تخرجا من الدنيا حتّى يجزيكما في المنزل الّذي جزى فيه زكريّا، ويجزيك يا فاطمة في الذي جُزيت فيه مريم بنت عمران: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([2])».
ثم بعث| منها إلى جميع بيوتاته ونسائه([3]).
العبرة من الرواية
وهذه الرواية التي أسلفنا ذكرها تكشف لنا من خلال سياقها الحدثي عن أمرين:
الأول: أنها ذكرت لنا فضيلة عالية ومنقبة كريمة للإمام أمير المؤمنين علي× مثل تلك الحادثة العظيمة التي وقعت لنبي الله الكريم عيسى بن مريم× في قصة المائدة.
الثاني: أنها تؤيّد ما ذهبنا إليه آنفاً من أن الجوع إذا ما حلّ بأحد أفقده تفكيره، وشلّ له عقله، وأذهله عن نفسه كما رأينا من الحال التي كان عليها المقداد (رضي الله عنه).
الإسلام وقانون المعجزات
وهذا اللون من التعامل في الواقع لم يعتمده الإسلام كلون تعاملي دائمي مع الناس عامة، والمسلمين خاصة؛ لأن الحياة لا يمكن أن تسير دائماً على المعجزات؛ ذلك أنها إذا ما كانت كذلك، فإن هذه الحياة سوف تشل وتتوقف، حيث يتوقف الإنسان عن الحركة والعمل والطلب وما إلى ذلك.
نعم أحياناً نضطر إلى اللجوء إلى هذا اللون من الإثبات الإعجازي؛ من أجل تقرير نبوة الأنبياء^ و إثباتها، ذلك أنه الاسلوب الوحيد للتدليل على صدق نبوة الأنبياء أمام من ينكرون هذه النبوة، ويطالبون النبي الأكرم محمداً| بالإتيان بها.
يتبع…
___________________________
([1]) عيون الأخبار 1: 87، ولم ينسبه للشافعي. وكان بعض ملوك العجم إذا شاور مرازبته فقصّروا في الرأي دعا الموكَّلين بأرزاقهم فعاقبهم، فيقولون له: تخطئ مرازبتك، وتعاقبنا؟ فيقول: نعم، إنهم لم يخطئوا إلّا لتعلَّق قلوبهم بأرزاقهم، وإذا اهتموا أخطؤوا. وكان يقال: إنّ النفس إذا أحرزت قوتها ورزقها اطمأنّت. المصدر نفسه.
([3]) تفسير فرات الكوفي: 83 ـ 85 / 60، شرح الأخبار 2: 401 ـ 403، الأمالي (الطوسي): 616 ـ 618. قال الشاعر:
وله خلتان من زكريا *** وهما غاضتا الحسود الغويا
كفل الله ذاك مريم إذ كا *** ن تقياً وكان برّاً حفيا
فرأى عندها وقد دخل المحـ *** ـراب من ذي الجلال رزقا هنيا
وكذا كفّل الإله علياً *** خيرة الله وارتضاه كفيا
خيرة بنت خيرة رضي اللـ *** ـه لها الخير والإمام الرضيا
ورأى جفنة تفور لديها *** من طعام الجنان لحماً طريا
بحار الأنوار 39: 66.