دور الإعجاز في المسيرة الدعوية للأنبياء عليهم السلام ـ 03
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
البحث الثاني: الأهداف المتوخاة من هذه القصة
ولنرجع هنا إلى هذه الآية الكريمة لنرى بعض الأهداف التي تنطوي عليها، والتي تتضمنها كذلك هذه القصة من خلال الحوار الذي دار بين النبي عيسى× وبين من كان معه؛ سواء كان بلسانهم أو بلسان الحواريين، ونحن نجملها بالآتي:
الهدف الأول: بيان طبيعة النفس البشرية
إن هؤلاء إذ قالوا لعيسى×: ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ فإنهم إنما يترجمون لنا حالة بشرية طبعت عليها نفوسهم، وتنطوي عليها ضمائرهم؛ ولهذا فإنه لابدّ لنا أن نلتفت إلى حقيقة الطبيعة البشرية التي تبين لنا أن الإنسان إذا ما لم يحاول أن يرتقي بنفسه إلى مصافَّ أعلى من المصافِّ البهيمية، فإننا نجد عنده أن صوت المعدة لا يعلو عليه صوت. وهذا هو الذي تريد أن تأكده لنا هذه الآية الكريمة من خلال ما يمكن أن نمتاحه من هذا المقطع الشريف.
ونحن لا نريد أن نذهب إلى الجانب السلبي من هذه الفكرة وهي أن الإنسان معدة دائماً، لكننا نريد أن نركز على الجانب الإيجابي الذي ينبغي على كل مصلح ومرشد أن يلاحظه وهو أن الإنسان إذا ما جاع، أو رأى أهله وأطفاله جياعاً، فإن من العسير نصحه وإرشاده، ومحاولة جعله إنساناً مستقيماً إذا ما أراد الداعي أن يجعله كذلك.
وبعبارة أخرى نقول: إن الإنسان الجائع الذي لا يجد رغيفاً يسد به جوعه ولا لقمة يسد بها رمقه، بل إنه يعيش الجوع والفقر القاتلين فإن من العسير على أي انسان آخر أن يتوجه إليه بالموعظة والنصح والإرشاد. لكن هذا الأمر من الممكن لأي إنسان أن يتوجّه إليه به بعد أن يضمن له جميع أساسيات الحياة التي تجعل منه إنساناً مستقراً على الصعيد النفسي أولاً، والصعيد المادي ثانياً؛ فحينها يمكن للإنسان الداعي أن يضمن استعداده للتربية والتوجيه والوعظ والإرشاد. ومن هنا فإننا نريد أن نؤكد على حقيقة هي أن الطبيعة البشرية إذا ما انساقت إلى الجانب المادي نتيجة تفعيل الغرائز البهيمية عنده، وهو التفعيل المترتب على عدم إشباعها، فإنه حينئذٍ لا يمكن أن يصبح إنسانا أبداً، بل إنه يتحول إلى وحش كاسر يصعب سياسه وقيادته.
إذن لابد للإنسان الداعي أن يكفل أساسيات الإنسان التي تتمثل بإشباع الغرائز عنده، وإيجاد ما يضمن مع هذا تحوله من ذلك الوحش إلى إنسان مسالم يتقبل النصيحة، ويستقبل الوعظ والإرشاد.
أنماط الإشباع عند الإنسان
وهذا يجري على الغرائز التي تحتاج إلى إشباع مباشر، أو إلى إشباع غير مباشر، وهو ما يقودنا إلى الإقرار بحقيقة هي أن الإنسان بشكل عام عنده نمطان من الحاجات، وبالتالي له لونان من طرق إشباعها، وهي الحاجات التي يمكن أن تشبع بشكل مباشر، والحاجات التي يمكن أن تشبع بشكل غير مباشر، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
أولاً: الإشباع غير المباشر
حينما نرصد حركات الإنسان أو تحركاته فإننا يمكن أن نلمس جانباً منها يتعلق بهذا النمط الذي يحتاج إلى واسطة لبلوغه والوصول إليه عنده، كما هو الحال في مجال إشباع الحاجات الفكرية أو الروحية عنده؛ ولهذا فإننا نسميه إشباعاً غير مباشر؛ لأنه يمر عبر حالة الإشباع المباشر ليصل إلى هذه المرحلة عنده.
ثانياً: الإشباع المباشر
وهو الإشباع المتعلق بالغرائز المباشرة عند الإنسان، سيما تلك الغرائز التي تتخذ لها طابعاً حيوانياً أو بهيمياً عنده كغريزة المعدة المتمثلة بالطعام والشراب، وغريزة الجنس المتمثلة عنده بميله إلى الزواج، وغريزة شراء الملابس وغيرها عند إحساسه بالبرد أو إحساسه بأنه يتعرض إلى ظروف مناخية قاهرة تلزمه بأن يرتدي تلك الثياب، أو أن يحتاج إلى وسيلة نقل ليقضي بها حاجاته وأموره في رحلته الحياتية هذه حيث يستخدمها للتنقل من مكان إلى آخر ولنقل ما يصعب عليه حمله من مكان إلى آخر.
إذن فهؤلاء حينما يقولون للنبي عيسى×: ﴿قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ فإنهم إنما يؤكدون هذه الحقيقة التي ذهبنا إليها وهي أن صوت المعدة لا يعلو عليه صوت، وأن المعدة الخالية لا تعرف المنطق أبداً، فصاحبها لا يستجيب إلى الموعظة والنصح والإرشاد حتى يملأها ويسد حاجتها ويشبع غرائزها. وهذا ما يثبته الحديث الشريف الوارد عن نبينا الأكرم|، والذي يؤكده وهو قوله: «لولا الخبز ما صلينا ولا صمنا»([1]). وهو المعنى الذي استوحاه الأعسم في ارجوزته حيث يقول:
الفضل للخبز الذي لولاه ***ما كان يوماً يعبد الإله([2])
وقد سئل أبو ذر (رضي الله عنه) عن أفضل الأعمال بعد الايمان، فقال: «الصلاة، وأكل الخبز». فنظر إليه السائل كالمتعجب، فقال (رضي الله عنه) له: لولا الخبز ما عبد الله تعالى([3]). أي أنه بأكله الخبز سوف يقيم صلبه؛ فيتمكن حينها من إقامة الطاعة([4]).
وهو أمر واقع وواقعي لا يمكن لأحد رده أو إنكاره؛ لأن الطعام إذ يشبع المعدة فإنها سوف تستقر وتهدأ، وإذا ما استقرت وهدأت استقر الإنسان، وتبدأ حركته بالتوجه نحو الجانب العقلاني حيث يتمكن حينها من التفكير والمناقشة والتأمل في كل ما من شأنه أن يرتفع بمشاعره، ويرتقي بأحاسيسه، ويأخذ بيده إلى مصافَّ أعلى مما هو عليه.
يتبع…
__________________
([1]) شرح اُصول الكافي 2: 9، مرآة العقول 12: 71.
([2]) منظومة ابن الأعسم في المأكل والمشرب: 17 ـ 18.
([3]) المبسوط 30: 258، تفسير السمعاني 4: 132.
([4]) والعرب تسمي الخبز جابراً، قال بعضهم:
فلا تلوموني ولوموا جابرا * فجابر كلفني الهواجرا
تفسير السمعاني 4: 132.