التضحية في سبيل الله ـ 17
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
المبحث السابع: الصدق في الجهاد والتضحية
ثم انتقلت آية المقام الكريمة لتقول: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ﴾، لتبيّن لنا من خلال هذا الطرح الدقيق حقيقة المؤمنين الذين آمنوا بالله تبارك وتعالى وبرسوله الكريم محمد الحبيب المصطفى| ورسالته الخالدة حقّاً، واعتقدوا به جلّ شأنه وبرسوله الأعظم| صدقاً. وهو ما سوف نستقرئه عبر المطالعتين الواعيتين التاليتين اللتين سنتناولهما إن شاء الله تعالى من خلال البحثين التاليين:
البحث الأول: الصدق والإخلاص في النية
إن مؤدّى هذا المقطع الشريف أن الإنسان إن لم يكن صادقاً في جهاده، فلم يجاهد إذن؟ ومعلوم أنه إن لم يكن صادقاً فإنه إما أن يقاتل من أجل الغنيمة، أو من أجل دافع عصبي قومي، أو من أجل بلوغ منزلة يحظى بها عند من يقاتل معه، فإذا ما عمد المقاتل إلى لهوات الحرب وسوح الجهاد، وألقى بنفسه بين فكيها دون أن يخشى ضرامها، فإننا لا يمكن أن نحمله على ذلك المحمل، ولا أن نظن به ذلك الظن وهو أنه ليس بصادق في جهاده إلّا أن يصرح هو بأنه إنما جاء لأجل أمر دنيوي، لا لأجل أمر أخروي([1]) إذن فمن يضحِّ بنفسه، مخاطراً بها بين قرع السيوف وطعن الرماح وضرب السهام، محتملاً في ذلك إوار نارها، فإنه لابدّ أن يحمل على الصدق في الجهاد والتضحية، وألّا يحمل تصرفه هذا واندفاعه على أنه بدافع من طمع دنيوي مما أشرنا إليه، بل لابدّ من تخصيص ذلك بالصدق بالنية في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى ولنصرة دينه الشريف ونبيه الكريم|.
البحث الثاني: جون مولى أبي ذر رحمه الله أنموذج من الصادقين
وهذا اللون من الجهاد والاستبسال حتى الاستشهاد بين يدي الله سبحانه وتعالى يأخذ بقلوبنا إلى تذكر أحد شهداء الطف وهو جون مولى أبي ذر (رضوان الله تعالى عليهما) الذي كان أسود اللون، وكان أبو ذر (رضي الله عنه) قد وهبه لأمير المؤمنين×، فبقي في بيت الإمام× وتنقل في بيت الإمامة حتى وصل إلى بيت الإمام السبط الشهيد الحسين بن علي’، فخرج يوم الطف معه، وكان يرافقه ويتبعه في كل حركاته وسكناته، بل حتى في خلواته ووحدته. يروي الإمام السجاد× فيقول: «إني لجالس في تلك العشيّة التي قتل أبي في صبيحتها، وعندي عمّتي زينب تمرّضني، إذ اعتزل أبي في خباء له، وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:
يادهر اُفٍّ لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيلِ
من صاحب أو طالب قتيل *** والدهر لا يقنع بالبديلِ
وإنما الأمر إلى الجليل *** وكلّ حيّ سالك سبيلي
فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة فردّدتها ولزمت السكوت، وعلمت أن البلاء قد نزل»([2]).
ثم لما رأى جوناً قد تهيّأ للنزول إلى ساحة الحرب يوم العاشر من المحرّم، ناداه× وقال له: «أنت في إذن مني، فإنما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتلِ بطريقنا». فاشرأبّ إليه بعنقه، وقال: يابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم؟ والله إن ريحي لمنتن، وإن حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفس علي بالجنة؛ فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيّض وجهي. لا والله لا اُفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم. فقال له الإمام الحسين×: «جزاك الله خيراً». ثم برز للقتال في اليوم العاشر من المحرم وبيده سيفه وهو يرتجز ويقول:
كيف يرى الكفّار ضرب الأسودِ *** بالسيف ذبّاً عن بني محمدِ
أذبّ عنهم باللسان واليدِ *** أرجو به الجنّة يوم الموردِ
حتى نكا بالجيش نكاية كبيرة، ثم قاتل حتى قتل، والإمام الحسين× يراقبه، فلمّا سقط على الأرض صريعاً شهيداً، أقبل× إليه، وجلس عند رأسه، ومسح الدم والتراب عنه، ثم رفع رأسه الشريف إلى السماء وقال: «اللهم بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد».
ثم نظر× إليه طويلاً، وقال: «لا لقيت هواناً بعد هذا اليوم». ثم نهض وانقلب عنه بعد أن روى الأرض بدمه([3]).
وبعد أن نهض عنه× قرأ قوله تبارك وتعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾([4]):
رجال تواصوا حيث طابت أصولهم *** وأنفسهم بالصبر حتى قضوا صبرا
حماة حموا خدراً أبى الله هتكه *** فعظمه شأناً وشرفه قدرا
فأصبح نهباً للمغاوير بعدهم *** ومنه بنات المصطفى اُبرزت حسرى ([5])
وروي عن الإمام الباقر× أن الناس كانوا يحضرون المعركة، ويدفنون القتلى، فوجدوا جوناً (رضوان الله عليه) بعد عشرة أيام تفوح منه رائحة المسك([6]).
وهكذا نجد أن جوناً (رضي الله عنه وأرضاه) هذا كان مثإلّا رائعاً من الأمثلة الناطقة بالشجاعة والإقدام والتضحية في سبيل الله سبحانه، وعرفان الجميل للآخرين.
ثم إن سيدنا ومولانا الإمام الحسين السبط× وقف على المستشهدين بين يديه وناداهم: «يا فلان ويا فلان، يا ابطال الصفا، ويا فرسان الهيجا، مالي أناديكم فلا تجيبوني؟ وادعوكم لا تسمعوني؟»([7]).
فأي مكانة أكبر من تلك المكانة التي يمنحها الإمام المعصوم× خليفة رسول الله| ليناديهم بذلك النداء، أو أن يقف عليهم حفيده الإمام× ليزورهم بتلك الزيارة المشهورة التي يقول فيها: «السلام عليكم أيها الأرواح التي حلّت بفِناء الحسين×، وأناخت برحله»([8]).
ويقول الإمام الصادق× حينما يقف على قبورهم زائراً، مخاطباً إياهم بالقول: «بأبي أنتم واُمّي طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم والله فوزاً عظيماً، فيا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً»([9]).
إنهم حقّاً أهل لأن تتهاوى الجباه على أعتابهم:
ومغسّلين ولا مياهَ لهم سوى *** عبراتِ ثكلى حَرّة الأحشاءِ
أصواتُها بُحّت فهن نوائح *** يندبن قتلاهن بالإيماءِ([10])
***
گضوا حگّ العليهم دون الخيام *** ولا خلّوا خوات حسين تنضام
***
تلك الوجوه المشرقات كأنها الـ *** أقمار تسبح في غدير دماءِ
خضبوا وما شابوا وكان خضابُهم *** بدم من الأوداجِ لا الحنّاءِ([11])
__________________________
([1]) يروى أن رجلاً من الأنصار يقال له قزمان قاتل في يوم أحد قتالاً شديداً حتى قتل ستة نفر من المشركين أو سبعة، فأثبتته الجراح، فاحتمل إلى بيته، وجاء المسلمون إلى رسول|، فأخبروه بخبره، وذكروه عنده بحسن معونته، وزكوه ومدحوه، فبشره رسول الله| بالنار، وقال لهم: «إنه من أهل النار». وقد ذكروا بعد ذلك أنه لما احتمل وبه الجراح نزل في دور بني ظفر، فقال له المسلمون: أبشر فقد أبليت اليوم. فقال: بم تبشرونني؟ فوالله ما قاتلت إلّا على أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتد به ألم الجراح، حبا إلى كنانته فأخذ منها مشقصاً فقتل نفسه. الفصول المختارة: 145 ـ 146، الخرائج والجرائح 1: 61 / 104، إعلام الورى بأعلام الهدى 1: 182 ـ 183، بحار الأنوار 20: 98.
([2]) الإرشاد 2: 91 ـ 92، الأمالي (الصدوق): 221، روضة الواعظين: 183، الخرائج والجرائح 1: 254، اللهوف في قتلى الطفوف: 88، بحار الأنوار 44: 391، تاريخ الطبري 4: 314 ـ 319، الكامل في التاريخ 2: 558، البداية والنهاية 8: 190 ـ 192، تاريخ اليعقوبي 2: 244، مقتل الحسين (الخوارزمي) 1: 349.
([3]) مثير الأحزان: 47، بحار الأنوار 45: 22 ـ 23.
([5]) المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة: 233، 302، 341 عن الدمعة الساكبة: 345 في المورد الأول.
([8]) بحار الأنوار 65: 131 / 62، 98: 196 / 31، بشارة المصطفى: 125.
([10]) ديوان الشيخ صالح الكوّاز: 18، سلسلة مجمع مصائب أهل البيت^: 378.
([11]) ديوان الشيخ صالح الكوّاز: 17 ـ 18، سلسلة مجمع مصائب أهل البيت^: 378.