الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 06
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
الفصل الثاني
في إثبات المذهب المختار، وهو أن الواجب الحقّ هو المتفرّد بالوجود الحقيقيّ، وهو عينه، وغيره من الموجودات موجودة بالانتساب إليه والارتباط به ارتباطاً خاصّاً، وانتساباً مخصوصاً، لا بعروض الوجود ـ كما هو المشهور ـ بوجه وجيه برهانيّ تفرّدت به.
أقول: تحقيق ذلك يستدعي تمهيد مقدّمتين:
الاُولى: أن الوجود قد يطلق ويراد به: الكون في الأعيان، ولا ريب في كونه اعتباريّاً انتزاعيّاً لا يمكنه أن يكون عين ذات الواجب الحقّ قطعاً. وقد يطلق ويراد به: ما هو مبدأ ومنشأ لانتزاع الوجود، بمعنى الكون في الأعيان والموجودية، ومصحّح صدقه وحمله. وهو بهذا المعنى عين الواجب؛ فإنه لو لم يكن في نفسه وبذاته مبدأً لانتزاع الوجود، ومصداقَ صدقه لم يكن في حدّ ذاته من حيث هو موجوداً فيحتاج إلى جاعل يجعله موجوداً بالضرورة؛ فإن توسّط الجعل بين الشيء ونفسه ممتنع.
وأما كونه شيئاً آخر، وصيرورته أمراً آخر بعدما لم يكن في نفسه وحدّ ذاته كذلك، فيحتاج إلى جاعل وفاعل بالضرورة، فهو عين الوجود بهذا المعنى.
وما هو المشهور عند الجمهور من أنه وجود خاصّ، أو فرد للوجود المطلق([1]) يؤول إلى ماذكرنا. وكذا ما قال بعضهم من أنه الموجود البحت([2]) على ما سيجيء.
الثانية: أن مناط الوجوب الذاتيّ ليس إلّا كون نفس ذات الواجب، من حيث هي مبدأ لانتزاع الوجود والموجودية؛ فإنا إذا فتّشنا وتفحّصنا عن أمر يكون منشأً لعدم احتياج الواجب في الموجوديّة إلى العلّة والجاعل واستغنائِه عنها، لا نجد إلّا كون الواجب في حدّ ذاته وفي نفسه، ومن حيث هو مبدأ ومنشأ لانتزاع الوجود ومصداق لصدق الموجود، فإنا نعلم بالضرورة أن الشيء إذا كان من حيث ذاته، بحيث يصحّ انتزاع الموجوديّة عنه، لاستغنى عن فاعل وجاعل يجعله موجوداً، ولا يحتاج فيه إلى الفاعل أصلاً.
وإذا كان كون الشيء في حدّ ذاته، بحيث يصح انتزاع الوجود عنه مناطاً لوجوبه، ومستلزماً لكونه واجباً بالذات، لا يكون الممكن من حيث ذاته، وفي حدّ نفسه ومن حيث هو مبدأ لانتزاع الوجود، ومصداق لصدق الموجود بالضرورة، وإلّا لكان واجباً بالذات.
فكلّ ممكن ليس في حدّ ذاته ونفسه، ومن حيث [هو]([3]) مبدأ لانتزاع الوجود، ومصداق لصدق الموجود أصلاً قطعاً. قال المحقق الدواني في حواشيه القديمة على (التجريد): (أقول: يتلخّص ممّا [نقلناه]([4]) وممّا تركناه من تصريحاتهم وتلويحاتم أن حقيقة الواجب عندهم هو الوجود البحت القائم بذاتّه، المعرّى في ذاته عن جميع القيود والاعتبارات الغريبة، فهو إذ لا موجود بذاته مشخّص بذاته، عالم بذاته، قادر بذاته، أعني بذلك أن مصداق الحمل في جميع صفات هويّته البسيطة، الّتي لا تكثرّ فيها بوجه من الوجوه. ومعنى كون غيره موجوداً أنه معروض لحصّة من الوجود المطلق بسبب غيره، بمعنى أن الفاعل يجعله بحيث لو لاحظه العقل انتزع منه الوجود، فهو بسبب الفاعل بهذه الحيثية، لا بذاته، بخلاف الأوّل).
ثم قال بعد كلام وقع في البين: (وإذا تمهّد هذا فنقول: هذا المعنى العامّ المشترك فيه من المعقولات الثانية، وهو ليس عيناً لشيء منها حقيقة.
نعم، مصداق حمله على الواجب ذاته بذاته، كما مر، ومصداق حمله على غيره ذاته من حيث هو مجعول الغير، فالمحمول في الجميع زائد بحسب الذهن. إلّا إن الأمر الّذي هو مبدأ انتزاع المحمول في الممكنات ذاته، من حيثية مكتسبة من الفاعل، وفي الواجب ذاته بذاته، فإنه كما سبق عندهم وجود قائم بذاته، فهو في ذاته بحيث إذا لاحظه العقل انتزع منه الوجود المطلق، بخلاف غيره).
هذا كلامه، وهو صريح في أن ذات الواجب وجود؛ لكونها من حيث هي وفي حدّ نفسها مبدأً لانتزاع الوجود، ومصداقاً لصدق الموجود، و([5]) أن الممكن ليس في حد نفسه، ومن حيث هو مبدأ لانتزاع الوجود، ومصداق لصدق الموجود، وإنما ينتزع منه الوجود بسبب حيثيّة مكتسبة من الفاعل، وليس ذاتُه بذاتِهِ مصداقاً للموجودية، ومبدأ لانتزاعها أصلاً.
وإذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول: كلّ ممكن سواء سمي بالوجود أو بالمهيّة لا يكون من حيث هو بحيث يصحّ انتزاع الوجود والموجودية عنه، وإلّا لكان واجباً بالذات لما مرّ آنفاً. ومن البيّن أنه إذا لم يكن أمراً في نفسه ومن حيث هو مبدأ لانتزاع الوجود والموجودية لم يصر موجوداً ومبدأ لانتزاع الوجود، إلّا بتغيّرٍ عمّا كان عليه في نفسه ضرورة أنه لو بقيَ حين الوجود على ما كان عليه في نفسه، ولم يتغيّر عنه كان كما كان في نفسه، لا موجوداً؛ إذ كلّ شيء في حدّ ذاته ليس إلّا هو، فلو صار أمراً آخر بعدما لم يكن في نفسه كذلك، لابد أن يتغيّر عما كان عليه في نفسه. فكلّ ممكن يوجد، لابدّ أن يتغيّر عما كان عليه في نفسه، وحدّ ذاته.
ولهذا صرّح المحقق الدواني على ما نقلناه عنه بأن المعلول يكتسب حين الوجود من الفاعل حيثيّة مصحّحة لانتزاع الوجود عنه. ولا ريب أن التغيّر عمّا كان عليه في نفسه إما بضمّ ضميمة إليه، أو بارتباطه بأمر آخر. لا سبيل إلى الأوّل؛ لأن الضميمة إما أن تكون واجباً بالذات أو ممكناً؛ لا يجوز أن يكون واجباً بذاته؛ لأن انضمام الواجب إلى الممكن إما بكونه حالّا ً فيه، أو محلّا ً له، وكلاهما ممتنع ممنوع على ما حقّق في موضعه. وكذا لا يجوز أن تكون الضميمة ممكناً؛ إذ لابدّ أن يكون ذلك الممكن موجوداً عينيّاً، أو يكون له مبدأ انتزاع موجود بأن تكون الضميمة أمراً اعتباريّاً نفسَ أمريٍّ؛ ضرورة أنه لا يمكن انضمام أمر معدوم محصّل إلى شيء أصلاً.
فإن كان موجوداً عينيّاً نقلنا الكلام إليه؛ إذ كل ممكن موجود، وإن فرض أنه نفس الوجود لاحتاج في أن يوجد إلى ضميمة؛ لما مرّ؛ فيتسلسل الأمر إلى غير النهاية، وإن كان أمراً اعتباريّاً له مبدأ انتزاع موجود نقول ذلك المبدأ ليس نفس ذات الممكن من حيث هي، وإلّا لكان الممكن بنفس ذاته مبدأً لانتزاعٍ لأمرٍ هو مصحّح لانتزاع الموجوديّة، وذلك مستلزم لكونه مبدأً لانتزاع الوجود والموجوديّة بنفس ذاته، فإنها بنفسها مبدأ انتزاع الموجودية، فيكون واجباً بالذات.
ولا يجوز أن يكون ذلك المبدأ نفس ذات الممكن لا من حيث هي بل باعتبار آخر وحيثيّة اُخرى، وإلّا نقلنا الكلام إليها حتى يتسلسل، وهو مستلزم لأن لا تكون الضميمة نفسَ أمريّ؛ لعدم انتهائها إلى مبدأ موجود مصحّح لانتزاعها. ولابدّ في كلّ اعتباريّ نفسِ أمريّ من مبدأ كذلك بالضرورة؛ إذ الأمر الاعتباريّ لا يكون نفسَ أمريّ إلّا إذا كان له مبدأ موجود في الخارج بل لا معنى لنفس أمريّته إلّا كونه ذا مبدأ موجود في الخارج على ما صرّحوا به.
يتبع…
____________________________
([1]) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 1: 251.
([5]) أي وصريح في أيضاً، عطف على (صريح) من قوله: (هذا كلامه، وهو صريح…).