الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 05

img

السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني

تذنيب وتعقيب

في بيان صحّة عروض الوجود بمعنى الكون للموجودات بحسب نفس الأمر.

اعلم أن العلّامة الدواني بنى صحة عروض الوجود للموجودات بحسب نفس الأمر، على أن ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوت المثبت له، لا [فرعه]([1])، فإنه قال في حواشيه على (التجريد): (لا إشكال في كون الاتّصاف بالكلّيّة ونظائرها بحسب الوجود الذهنيّ، ولا في أن الاتّصاف بالفوقيّة والعمى بحسب الوجود الخارجي؛ إذ الوجودان شرطان للاتّصافين كما يدلّ عليه صحّة تخلّل([2]) وجد في الذهن فصار كليّاً، ووجد في الخارج فصار فوقاً أو أعمى.

لكن في نفس الوجودين إشكال، كما مرّ إليه الإشارة؛ إذ لو اشترط في الوجود الّذي هو طرف الاتّصاف تقدّمه على الاتّصاف، لظهر أن الاتّصاف بالوجود الخارجيّ ليس بحسب الخارج، لكن لزم ألّا يكون الاتّصاف بالوجود في نفس الأمر بحسب نفس الأمر، لعدم تقدّم الشيء على نفسه. وإن اكتفى بمجرّد كونه منتزعاً من الماهيّة الموجودة بذلك الوجود، لزم أن يكون الاتّصاف بالوجود الخارجيّ بحسب الخارج؛ فإنه منتزع من المهيّة الموجودة في الخارج.

فالوجه كما أشرنا إليه أن يعتبر فيه ـ بعد كون الاتّصاف مستلزماً لهذا النحو من الوجود ـ أن يكون ذلك النحو من الوجود غير مخلوط بذلك العارض. وظاهر أن المهيّة في الوجود الخارجي [مخلوطة]([3]) به بحسب نفس الأمر، لكن للعقل أن [يأخذها]([4]) غير مخلوطة لشيء من العوارض، فهو في هذا الاعتبار معرّىً عن جميع العوارض، حتى عن هذا الاعتبار. فهذا النحو من الوجود طرف للاتّصاف به، وهو نحو من أنحاء وجود المهيّة في نفس الأمر.

لا يقال: هذا النحو من الوجود متقدّم على سائر الاتّصافات، فلو اعتبر التقدّم لتمّ الكلام.

لأنا نقول: إن هذا النحو لا تقدّم له على نفسه، والاتّصاف بهذا النحو من هذا النحو؛ فلا يصح اشتراط التقدم). انتهى كلامه.

وأقول: فيه نظر؛ فإنه([5]) جعل الاتّصاف في الاعتباريّات عبارة عن كون الموصوف في نحو من أنحاء الوجود، بحيث لو لاحظه العقل صحّ له أن ينتزع منه تلك الصفة على ما صرّح به في حواشيه القديمة على (التجريد) غير مرّة، والمرتبة العقليّة الّتي جعلها طرف الاتّصاف بالوجود من مرتبة أخذ المهيّة من حيث هي غير مخلوطة بشيء من العوارض، معرًّى عن جميعها، حتّى عن هذا الاعتبار على ما صرّح به.

ولا ريب في أن المهيّة في هذه المرتبة وهذا الاعتبار ليس بحيث لو [لاحظها]([6]) العقل صحّ له أن ينتزع [منها]([7]) الوجود الخارجي، كيف، ولو كان كذلك لكانت [مخلوطة]([8]) به؟ وهذه المرتبة إنما هي مرتبة التجرّد كما قال به، وإذا لم يكن في هذه المرتبة بهذه الحيثيّة، لم تكن تلك المرتبة طرف اتّصافها بالوجود الخارجي.

وظاهر أن الاتّصاف عنده إما بانضمام الصفة إلى الموصوف في الوجود كانضمام السواد إلى الجسم، وذلك في الصفات الموجودة في الخارج، وإما أن يكون الموصوف بحيث يصحّ أن ينتزع منه تلك الصفة، وذلك في الاعتباريّات. ولا ريب في أن اتّصاف المهيّة بالوجود من القسم الثاني، فإذا لم تكن المهيّة في طرف بحيث ينتزع منه الوجود كمرتبة تجرّده عن العوارض مطلقاً يكون هذه المرتبة طرف الاتّصاف به؛ إذ الاتّصاف في الوجود عبارة عن كون الموصوف به بهذه الحيثية، ففي مرتبة لا تتحقّق هذه الحيثية، لا يكون اتّصاف قطعاً؛ ففي مرتبة التجرّد عن الوجود، كيف يكون الاتّصاف بالوجود بهذا المعنى، وهو ظاهر؟

والحاصل أنه جمع في مرتبه اتّصاف المهيّة بالوجود بين أمرين متنافيين:

أحدهما: كون المهيّة في تلك المرتبة بحيث يصحّ انتزاع الوجود عنه؛ فإنه لا معنى أصلاً لاتّصاف المهيّة بالوجود إلّا ذلك.

وثانيهما: كون المهيّة في تلك المرتبة وهذا الاعتبار غير مخلوطة بالوجود. وإذا لم يكن بهذا الاعتبار والملاحظة مخلوطاً بالوجود، لم يصح انتزاع الوجود عنها في هذه المرتبة. وبحسب تلك الملاحظة فهما أمران متنافيان لا يجتمعان فلا تكون مرتبة التجرّد عن الوجود بعينها مرتبة الاتّصاف بحسب نفس الأمر. اللهم إلّا بمجرّد ضم العقل إليها، فيكون الاتّصاف به في هذا الظرف بمحض اختراعه. وفيه ما فيه، وهو خلاف ما بنى الكلام عليه، فتأمل.

وقال بعض المحققين على ما سمعت منه؛ إنّه يمكن عروض الوجود للموجودات بحسب نفس الأمر على تقدير قاعدة الفرعية أيضاً، وذلك بأن يقال: إن الخارج ظرف نفس الوجود الخارجيّ للموجود الخارجيّ، والذهن طرف اتّصافه بالوجود الخارجيّ وعروضه له، وفي الموجود الذهنيّ الذهن طرف نفس الوجود الذهني.

وهذا الظن في مرّة ومرتبة اُخرى أو ذهن آخر طرف عروض الوجود الذهنيّ لذلك الموجود الذهنيّ، واتّصافه به. فالوجود الذهنيّ مقدّم على الاتّصاف بالوجود الخارجيّ في طرف الذهن، وكذا الوجود الذهنيّ في مرّة مقدّم على الاتّصاف بالوجود الذهنيّ في مرّة، ومرتبة اُخرى، ولا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ولا التسلسل؛ لانقطاعه بانقطاع الاعتبار.

فإن قيل: لو كان اتّصاف المهيّة بالوجود الخارجيّ بحسب الذهنيّ، وكذا اتّصافه بالوجود الذهنيّ في مرتبة اُخرى، يلزم توقف موجوديّة المهيّة في الخارج على تعقّل ذلك الشيء ووجوده في الذهن، وكذا يلزم توقّف موجوديّة الشيء في الذهن على تعقّله ووجوده في الذهن مرة أخرى، وهذا كما ترى.

قلنا: مبنيٌ هذا الكلام على توهّم أن وجود الشيء في الخارج أو الذهن إنما هو باتّصاف الشيء بالفعل بالوجود الخارجيّ أو الذهنيّ، وليس كذلك، بل وجوده مطلقاً إنما هو بتأثير الفاعل فيه، لا باتّصافه بالوجود بالفعل هذا، ولكن في الفرق بين طرف نفس الوجود وطرف الاتّصاف به. والعروض عندي في هذا المقام أشكال، وهو أن الوجود الخارجي مثلاً لا يعرض للشيء في الذهن كعروض السواد للجسم وهو ظاهر، بل اتّصاف الشيء به في الذهن بمعنى صحّة الانتزاع، وصحّة الانتزاع مشتركة بين الخارج والذهن؛ فلم جعلت الخارج مثلاً طرف نفس الوجود، والذهن طرف الاتّصاف بالوجود، ولا فرق بينهما في ذلك أصلاً؟

وما رأيت في كلامهم مايفي بتحقيق ذلك، و[أمّا] ما أفاده المحقّق الدواني في الفرق ـ من أن ظرف العروض هو مرتبة التجرّد لا الخلط ـ فقد عرفت حاله آنفاً.

وأقول: لا يبعد أن يقال في بيان ذلك الفرق: إنا نعلم بالظاهر أنه لابد أن يكون كلّ محلّ وموصوف متحصّلاً حاصلاً بدون ذلك الحال، وتلك الصفة ومع قطع النظر عنهما، والمنازع مكابر، وقد مر إلى ذلك إشارة. فالموصوف بالوجود الخارجيّ أو الذهنيّ لابدّ أن يكون حاصلاً متحصّلاً في ظرف الاتّصاف بهما من غير الوجود الخارجيّ والذهنيّ وبدونهما، ومع قطع النظر عنهما.

ولا ريب أن الأمر الموجود في الخارج أو الذهن لا يكون حاصلاً متحصّلاً في الخارج أو الذهن، مع قطع النظر عن الوجود الخارجيّ أو الذهنيّ، فلا تكون صحّة انتزاعه عنه في الخارج أو الذهن اتّصافاً وعروضاً، بخلاف ما لو وجد الأمر الخارجيّ في الذهن؛ فإن الأمر الخارجي إذا وجد في الذهن كان حاصلاً متحصّلاً في الذهن بدون الوجود الخارجي، فيتّصف بالوجود الخارجي في الذهن، ويكون صحّة انتزاع الوجود الخارجيّ عنه فيه اتّصافاً به وعروضاً.

وكذا الموجود في الذهن، إذا يُعقل مرّة اُخرى تصير صحّة انتزاع الوجود الذهنيّ الاُولى عنه بناءً على تحصّله به اتّصافاً به، وعروضاً؛ فتصير المرتبة الثانية من الوجود الذهنيّ ظرفاً للاتّصاف والعروض، بخلاف المرتبة الأولى، فتدبر.

يتبع…

______________________

([1]) في المخطوط: (فرع).

([2]) في المخطوط بعدها كلة غير مقروءة.

([3]) في المخطوط: (مخطوط).

([4]) في المخطوط: (يأخذه).

([5]) في المخطوط بعدها الرمز: (س).

([6]) في المخطوط: (لاحظه).

([7]) في المخطوط: (عنه).

([8]) في المخطوط: (مخلوطاً).

الكاتب السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني

السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني

مواضيع متعلقة