الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 04
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
ومنها ماذكره بعض المحقّقين في شرحه للتجريد، وهو قريب ممّا أفاده المحقّق الدواني [رحمه الله]([1]) ـ حيث قال: (وتحقيق الكلام في المقام أنا إذا خصصناه المقدّمة القائلة بأن ثبوت شيء لشيء فرع لثبوت المثبت له بما ذكرناه، صحّ ما قلنا من قيام الوجود بالمهيّة من حيث هي، أمّا لو لم يخصص كما اشتهر بين الناس، وذهب إليه أيضاً المحقّق الشريف في هذا المقام، وقال: (التخصيص في القواعد العقليّة مما لا يجوز)، فلا يصحّ ما قلناه أيضاً، ولزم ثبوت ما ذهب إليه القائلون بوحدة الوجود([2]) من أن الوجود الذي هو مبدأ الآثار موجود بذاته، وهو الحقّ سبحانه.
والمهيّة المعدومة في أنفسها مستندة إليه نوع استناد مجهول الكيفيّة، به يصير تلك المهيّة موجودة مترتّبة عليها الآثار. وذلك لأنه لا يجوز قيام الوجود بالمعنى المذكور بالمهيّة من حيث هي، بناءً على المقدّمة المذكورة، ولا بالجهة الموجودة بعين ما ذكروه في امتناع قيام الوجود بمعنى الكون، والحصول بالمهيّة الموجودة.
ومن البيّن أن بين الوجود والمهّية استناداً، فإذا امتنع ذلك من جانب الوجود تعين أن يكون من جانب المهيّة، ولا يمكن ذلك إلّا بأن يكون الوجود موجوداً بنفسه من غير ضميمة، وإلّا لزم مالزم من قيام الوجود بالمهيّة ـ وما يكون كذلك، ليس إلّا واجباً بالذات، وهو الحقّ سبحانه ـ وأن تكون الماهيّات مستنده إليه نوع استناد، به تصير المهيّات موجودة ـ أي منسوبة إلى الوجود الحقّ كالمشمس المأخوذة من الشمس، والمعلول المأخوذ من العلّة. ولمّا ثبت موجوديتها بهذا المعنى صحّ قيام الأشياء بها، ومن جملتها الوجود بمعنى الكون والحصول.
لا يقال ـ على تقدير عدم التخصيص ـ: يثبت ما ادّعاه هؤلاء أن لو كان [الموجود]([3]) به الشيء في الخارج عبارة عن اتّصافه بالوجود. أما إذا كان عبارة عن كونه بحيث إذا حصل في العقل كان متّصفاً بالوجود الخارجيّ، فلأنا نقول: القول باتّصاف المهيّة بالوجود الخارجيّ في الذهن، قد أبطلناه، مع أنا إذا نقلنا الكلام إلى ثبوت تلك الحيثيّة، اتّجه عليه ما قلناه من الاتّصاف بالوجود.
ولا يذهب عليك أن التقرير المثبت لمذهب هؤلاء يثبت الواجب، ويثبت المعيّة الذاتية المدلول عليها ظاهراً، فقوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾([4]) يثبت أن [لا فاعل]([5]) في الوجود إلّا هو.
وأقول: فيه نظر من وجوه:
أما أولاً، فلأن المقدّمة الّتي هي مناط الدليل بزعمه ـ وهي أن ثبوت الشيء للشيء فرع لثبوت المثبت له سواء خصّص أو لا ـ غير مسلّم، بل ثبوت شيء لشيء مستلزم لثبوت المثبت له لا فرعه، والدليل المذكور لا يتمّ إلّا على تقدير الفرعيّة، كما اعترف به.
وأما ثانياً، فلأن ما ذكره من التخصيص هو أن هذه المقدّمة مسلمة فيما إذا كان الثابت من الاثمور المنضمّة بالفعل على الشيء كالسواد والبياض، وأما إذا كان من الاُمور الانتزاعيّة الّتي تحصل بضرب من التحليل كالوجود، فلا. ولا يخفى عليك أن ذلك ليس تخصيصاً ممنوعاً في القواعد العقليّة؛ فإن محصّل هذا التخصيص ادّعاء الفرق بين ثبوت الاُمور الموجودة بالفعل للشيء، وبين صحّة انتزاع الاُمور الانتزاعية عنه، من أن أحدهما يستدعي تقدّم ثبوت المثبت له، والآخر لا يستدعي تقدّم ثبوت مبدأ الانتزاع وإن استلزمه.
والفرق بينهما في ذلك ليس تخصيصاً في القواعد العقليّة، فإنه ممّا تعقل الفطرة السليمة ولا تنكره. وما قال المحقّق الشريف في هذا المقام من أن ذلك تخصيص في القواعد العقلية، فلعله ردّ لكلام من خصّص نفس الوجود من بين الاُمور المنضمّة بالفعل، والاُمور الانتزاعية معاً، فقال: (ثبوت شيء لشيء مطلقاً فرع لثبوت المثبت له سوى نفس الوجود؛ فإنه ليس ثبوته ولا انتزاعه فرعاً لثبوت ما انتزع منه).
وهذا كما قال المحقّق تخصيص في القواعد العقلية بلا مخصّص، بخلاف ما ذكرناه.
وأما ثالثاً، فلأن ما ذكره من أن (من البيّن أن بين المهيّة والوجود استناداً غير بيّن)، فإن المسلم أن بين المهيّة والوجود ـ بمعنى الكون ـ استناداً، وأما أن بينها وبين الوجود ـ بمعنى مبدأ الآثار ـ استناداً فلابدّ له من بيان. ودعوى البداهة غير مسموعة، بل الصادر عن الفاعل إنما هو نفس الذات والمهيّة ـ كما هو مذهب صاحب الإشراق ـ والعقل ينتزع منها الوجود بمعنى الكون.
وأما رابعاً، فلأن قوله: (وما يكون كذلك ليس إلّا واجباً، وهو الحقّ سبحانه) ممنوع يحتاج إلى بيان؛ فإنه لا يلزم من عدم احتياج شيء في أن يكون مبدأ للآثار إلى ضمّ ضميمة أن يكون واجباً بالذات، بل الواجب بالذات ما لا يحتاج في أن يكون مبدأ للآثار إلى الغير مطلقاً. ويجوز ألّا يحتاج شيء في أن يكون مبدأً للآثار إلى ضمّ ضميمة وإن احتاج إلى جاعل. وقد ذكر هذا المحقّق هذا الكلام بعينه في مثل هذا المقام، فإنه بعد ما ذكر من أن الوجود يجوز أن يكون موجوداً بنفسه، قال: (قيل: فإذن يكون الوجود واجباً بالذات؛ إذ لا نعني بالواجب إلّا ما تترتّب عليه الآثار من غير ضميمة.
واُجيب عنه بأن كون الوجود كذلك متوقّف على تأثير من الفاعل، وقبول من المهيّة، والواجب لا يتوقف في ترتّب الآثار على أمر ما).
وما أورد على هذا الجواب إيراداً أصلاً، وهو يدلّ على كونه مرضيّاً عنده، فكيف بنى الكلام على خلافه في تبيين هذا المرام؟
وأما خامساً، فلأنه لا يلزم من مجرّد امتناع قيام الوجود بالمهيّة موجود [يرتبط] بنوع ارتباط بالوجود مجهول الكيفية؛ لجواز أن يكون الوجود محلّا ً لها كما ذهب إليه وهَمُ جمعِ المتصوّفة. فلا يتمّ ما ذكره هذا القائل إلّا بإبطال هذا الاحتمال. وينبغي أن يشير إلى بطلانه، وليس في كلامه إشارة إلى ذلك أصلاً.
وممّا ذكرنا يظهر أن ما أفاده هذا المحقّق في هذا المقام لا يفي إيضاحه بإثبات هذا المقصد والمراد، كما لا يخفى على اُولي الأفهام.
يتبع…
_________________________
([1]) في المخطوط بعدها الرمز: (س).