التضحية في سبيل الله ـ 16
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
المبحث السادس: نصرة الله ورسوله
ثم انتقلت آية المقام الكريمة لتقول: ﴿وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ مقررة أن الدافع الحقيقي عند هؤلاء هو نصرة الله سبحانه وتعالى ونصرة الرسول الأكرم|، وأن خروجهم إنما كان دفاعاً عن الدين والمعتقد، وإرساء لقواعدهما، ومحاولة لتأسيس هذا الدين ونشره بين الناس دون أن يكون عندهم أي هدف آخر يسعون إلى تحصيله من خلال ذلك التحرك، وتلك التضحيات التي قدموها.
عمرو بن الجموح أنموذجاً
ولنضرب هنا مثلاً نبين من خلاله هذا الأمر الذي ذكرناه، وهو ما يرويه المؤرخون من أن عمرو بن الجموح ـ وكان شديد العرج ، وكان فرض الجهاد ساقطاً عنه ـ أبى إلّا أن يجاهد، وكان له أربعة بنين، فلم يجبّنوه أول الأمر عن الغزو مع رسول الله|، لكنه لما أراد أن يتوجّه إلى اُحد مع رسولنا الأكرم|، قالوا له: إن اللّه عزّ وجلّ قد وضع عنك فرض الجهاد، وجعل لك رخصة؛ فلو قعدت، ونحن نكفيك. فأبى ذلك وأتى رسول الله|، وقال له: يا رسول الله، إن بنيّ هؤلاء منعونني أن أخرج معك في هذا الوجه، والله إني لأرجو أن اُستشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنّة. فقال له رسول الله|: «أما أنت، فقد وضع الله عنك الجهاد». وقال لبنيه: «وما عليكم أن تدعوه؛ لعلّ الله يرزقه الشهادة؟».
ثم أذن له النبي الأكرم| في أن يجاهد حينما رأى إصراره على هذا الأمر، وقال له: «ابرز بارك اللّه فيك». فقاتل إلى أن قُتل شهيداً، وقُتل معه أحد أولاده، ثم قُتل خال أولاده عبد الله بن عمرو بن حزام ([1]).
ولما أراد الرسول الأكرم| دفن شهداء أحد، دفن بعضهم في قبور جماعية، في حين أن البعض قد دفنهم في قبور فردية ، وكان من جملة من دفن في قبر واحد عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو (رضي الله الله عنهما) حيث قال|: «ادفنوا عبد الله بن عمرو، وعمرو بن الجموح في قبر واحد». ثم كفنهما| بحبرة واحدة؛ لأن الشهيد يدفن بثيابه التي استُشهد فيها، وكان أحدهما قصيراً والآخر طويلاً، فكانوا كلما أدنوا الكفن من قدميه بان رأسه، فإن غطوا رأسه بانت قدماه، فغطاهما| بالحشيش والحرمل([2]).
وعمرو بن الجموح (رضوان الله تعالى عليه) هذا كان رجلاً غنياً كما يروي المؤرخون، وكان ذا مركز اجتماعي معروف، وذا مكانة ومنزلة مرموقتين بين المسلمين، وكان من المعلِمين، وهم جماعة كانوا إذا نزلوا إلى الحرب وضعوا علامة على رؤوسهم، فمتى رآهم العدو هابهم واجتنبهم؛ لأنه يخشى قتالهم؛ إذ إن هؤلاء المعلمين كانوا يصدقون في الحرب والقتال، ولا ينثنون عنه ولا يتراجعون أبداً.
وهكذا فإننا نجد أن النبي الأكرم| قد أوضح لعمرو هذا بأن من أصيب بمثل عاهته فإن الجهاد ساقط عنه، لكنه أصر إصراراً شديداً على النبي الأكرم| في أن يأذن له في الجهاد؛ معللاً ذلك بأنه يريد أن يطأ الجنة وهو بهذه العاهة حتى يصلحها الله سبحانه له فيها. وأمام رغبته في الجهاد في سبيل الله وطلب مرضاة الله سبحانه أذن له رسولنا وحبيبنا الأعظم محمد بن عبد الله| في الخروج للقتال، وهو ما ينم عن روح قتالية وإيمانية وعقيدية عالية، وينم عن لون من الإيمان الصافي والناصع والمنقطع النظير عند أصحاب النفوس الكبيرة التي تعتبر مطالع ومناجم غنية بالتضحية والفداء والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، فكان أن استثمرها النبي الأكرم| لأنها الإسلامية.
يتبع…
________________________
([1]) السنن الكبرى (البيهقي) 9 : 24 ، الاستبصار فى نسب الصحابة من الأنصار (المقدسي): 154، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير (ابن سيد الناس) 2: 26، الاستيعاب 3: 1168 – 1169 / 1903، الجامع لأحكام القرآن 8: 226 ـ 227، وفي (الاستيعاب)، و(الاستبصار)، و(عيون الاثر) أن رسولنا الأكرم| قال: «لقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته».
([2]) بحار الأنوار 20: 131 ـ 132، المصنف (ابن أبي شيبة) 3: 206 / 117، 8، 487 / 16، اُسد الغابة 3 : 232 ، شرح نهج البلاغة 14: 263.