التضحية في سبيل الله ـ 15

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

أمير المؤمنين يؤجّر طاقته بسبع عشرة تمرة من أجل الرسول|

ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر يروي المؤرخون عن أمير المؤمنين× أنه قال: «جعت يوماً بالمدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً، فظننتها تريد بلّه، فأتيتها فقاطعتها عليه كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوباً حتى مجلت يداي، ثم أتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها فقلت بكفي هكذا بين يديها ـ وبسط الراوي كفيه وجمعهما ـ فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي|، فأخبرته، فأكل معي منها»([1]).

وفي رواية اُخرى أنه أصابت النبي الأكرم| خصاصة، فبلغ ذلك الإمام أمير المؤمنين علياً×، فخرج يلتمس عملاً يصيب فيه شيئاً ليغيث به النبي الأكرم|، فأتى بستان رجل من اليهود، فاستقى له سبعة عشر دلواً كل دلو بتمرة، فجاء بها إلى النبي|، فقال له: «من أين لك هذا يا أبا الحسن؟». فقال×: «بلغني ما بك من الخصاصة يا نبي الله، فخرجت ألتمس عملاً لاُصيب لك طعاماً». فقال|: «حملك على هذا حب الله ورسوله؟». قال×: «نعم يا نبي الله». فقال نبي الله|: «ما من عبد يحب الله ورسوله إلّا [كان] الفقر أسرع إليه من جربة السيل على وجهه، ومن أحبّ الله ورسوله فليعدّ للبلاء تجفافاً ولهماً». يعني الصبر ([2]).

فمثل هذا الرجل العظيم هل من الممكن أن يساوى بينه× وبين من أصبح الذهب والفضة عنده يكسران بالفؤوس ([3])؟ نعم لقد كثر الذهب والفضة عند بعض المسلمين، حتى إن بعضهم كان لا يميز بين الذهب والفضة من حيث الثمن والقيمة، فكان يقول: من يأخذ منّي هذه الحمراء، ويعطيني بدلها بيضاء؟ فمثل هذا الذي كان يكدس الذهب والفضة هل يمكن أن يقاس بمن يقول: «جعت يوماً بالمدينة جوعاً شديداً، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً، فظننتها تريد بلّه، فأتيتها فقاطعتها عليه كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوباً حتى مجلت يداي…»؟ إن الحق والحقيقة والموضوعية تفرض علينا ألّا نضعهما بكفّة واحدة، بل لابدّ من التمييز وإعطاء الفضل لذي الفضل، وإعطاء المنقبة لصاحبها وفق قانون الإسلام ومقررات دستور القرآن الكريم.

البحث الثاني: حصولهم على الرضوان في الآخرة

وهذا واضح من خلال ما أعد الله سبحانه وتعالى لهم من نعيم في الآخرة ينم عن رضاه عنهم غاية الرضا، وعن قبوله عملهم وتوجهاتهم وجهادهم؛ إذ كان خالصاً له جلّ شأنه وفي سبيله، فكان أن عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾([4]).

وفعلاً حاز هؤلاء المقامَين، وحفظت السماء لهم حقهم في التاريخ وعند الله سبحانه وتعالى الذي توجهم بهذا التاج، وهو الرضوان الأكبر. وينبغي أن نشير إلى أن هؤلاء هم أهل لهذا الاستحقاق لما بذلوه في سبيل الله تبارك وتعالى، وفي سبيل رسوله الأكرم محمد|، وفي سبيل الدين الإسلامي الحنيف؛ حيث ضحوا من أجل ذلك كله بأنفسهم وهي أعز ما يمكن أن يضحى به، وبأهليهم، وبأموالهم وممتلكاتهم؛ فحق على الله أن يمنحهم تلك المكانة العظمى والمقام الأكبر عنده.

يتبع…

_____________________

([1]) كشف الغمة في معرفة الأئمة 1: 174، حلية الأبرار 2: 250 /  19، بحار الأنوار 41: 33، المجموع شرح المهذّب 15: 8، نيل الأوطار 6: 34.

([2]) تفسير العياشي 2: 101 / 93، مناقب الإمام أمير المؤمنين× (الكوفي) 2: 586 /  1097 ، عوالي اللآلي 3: 254 / 4، نصب الراية 5: 282 – 283، قال الزيلعي: وأعلّه في التنقيح بحنش… وقد ضعفوه إلّا الحاكم فإنه وثّقه، وقد رواه أحمد في مسنده. تاريخ مدينة دمشق 6: 385، نظم درر السمطين: 192، الرياض النضرة في مناقب العشرة 3: 214، السنن الكبرى ( البيهقي) 6 : 119 – 120، سنن ابن ماجة 2: 818 /  2446.

([3]) وهو زيد بن ثابت فقد ذكر المؤرّخون أنه بعد أن توفي حصرت تركته من الفضّة والذهب فكانت ممّا يكسر بالفؤوس. هذا غير ما خلّف من الأموال والضياع التي قدّروها بمئة ألف دينار. وممّا يندرج في الباب نفسه ما يرويه المؤرّخون عن بعض الصحابة وما خلّفوه بعدهم من أموال وتراث، ومنهم:

أولاً: عثمان بن عفان، فقد كان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومئة ألف دينار، وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مئتا ألف دينار، وخلّف إبلاً وخيلاً كثيرة.

ثانياً: الزبير بن العوام، فقد بنى دوراً في البصرة ومصر والكوفة والإسكندريّة، وقد بلغ الثمن الواحد من متروكاته بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلّف ألف فرس وألف أمة. وقد اقتُسم ميراثه على أربعين ألف ألف، وكان عثمان قد أعطاه يوماً مئة ألف مرّة واحدة. وروي كذلك أنه كان يقول: كان عمر يستخلفني على المدينة، فوالله ما رجع من مغيب قط إلّا قطع لي حديقة من نخل.

ثالثاً: طلحة بن عبيد الله التيمي، فقد بنى داراً له بالكوفة، وشيّد اُخرى بالمدينة، وبناها بالجصّ والآجرّ والساج ، وكانت غلّته من العراق ألف دينار كلّ يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك.

رابعاً: سعد بن أبي وقاص، فقد بنى داراً له بالعقيق، ورفع سمكها، وأوسع فضاها، وجعل على أعلاها شرفات.

خامساً: عبد الرحمن بن عوف الذي جيء بتركته بعد أن توفي إلى مجلس الخليفة الثالث، فوقف رجلان كلّ واحد في جهة من التركة فلم يرَ أحدهما الآخر. وكان على مربطه ألف فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف من الغنم. وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً.

انظر في كلّ ذلك وغيره ممّا لم نحصِه: المنتخب من ذيل المذيّل (الطبري): 23، تاريخ ابن خلدون 1: 204 ـ 205، مروج الذهب 2: 332 ـ 334، سير أعلام النبلاء 2: 434، أخبار القضاة 1: 108، حلية الأولياء 1: 160.

([4]) التوبة: 72.

الكاتب ----

----

مواضيع متعلقة