التضحية في سبيل الله ـ 14
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
الأنموذج الثاني: المهاجرون والأنصار
وقد حدثنا التاريخ عن التضحية التي قدمها المهاجرون بترك أولادهم وأزواجهم، وأموالهم وديارهم وعقارهم، وما يملكون في مكة، ولحقوا برسول الله|، فكان أن عوضهم الله سبحانه عن ذلك كله بأن جعل الأنصار يعطفون عليهم، فيقاسمونهم ما يملكون، حتى إن بعضهم ممن كان له زوجتان على عصمته كان يطلق إحداهما، حتى إذا خرجت من عدتها الشرعية زوّجها للمهاجر.
إن الإنسان في العصر الحديث يفتخر بأنه قد أنشأ جمعيات إنسانية وظيفتها الرفق بالإنسان، ومهمتها مساعدته والعطف عليه، لكننا لو نظرنا إلى هذه الجمعيات فإننا نجد أنها لا تقدم أكثر من رغيف خبز، أو شيء يلتحف به الإنسان لينام، أما إذا ما نظرنا إلى ما صنع الإسلام بالنفوس حينما جاء المهاجرون إلى المدينة المنورة فإن الإنسان سوف يقف مبهوراً أمام عظمته، وأمام عظمة ذلك التصرف الذي أبداه الأنصار، وجسامة تلك التضحيات والتنازلات التي قدموها من أجل إخوانهم المهاجرين، فاقتسموا معهم الأموال والديار والأثاث والممتلكات، وأشرنا إلى أنهم قد تخلوا عن نسائهم من أجل أن يتزوج منها المهاجر حتى يحفظ دينه ونفسه.
فهل يستطيع العالم المادي اليوم أن يفعل مثل هذا، وأن يتنازل ممتلكاته لغيره طواعية، وعن رضا نفس وقناعة تامّين بما يفعل، وهو عالم أن ما يقدّمه ليس هناك من شيء مادي يكون إزاءه في هذه الدنيا؟ والجواب أنه لا أحد يستطيع أن يفعل مثل هذا سوى رجل الإنسانية الأول، ومعلمها الأفضل والأكمل، وأستاذ البشرية جمعاء الحبيب المصطفى محمد بن عبد الله| الذي صنعته السماء، وأدّبه الله تعالى، وشدّ ساعده الإسلام، فصنع الإسلام في نفوس المسلمين، وأوصلهم إلى ما رأينا من فعلهم وإيثارهم على أنفسهم. وبهذا التصرف السماوي الكريم والسامي يكون الإسلام قد أعاد للمهاجرين الثقة بالإنسانية الجديدة؛ نتيجة زرعه منظومة متكاملة من المفاهيم الحميدة فيهم، ومنها التضحية الكريمة التي تجلت من خلال تصرّف الأنصار؛ إذ إنهم باستقبالهم لهم ذلك الاستقبال الذي أشرنا إليه يكونون قد أزالوا عنهم الشعور بالهم والحزن والفقر والفاقة والحاجة إلى الناس.
المبحث الخامس: المراد من الفضل والرضوان
وبعد ذلك انتقلت آية المقام الكريمة لتقول: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً﴾، والمراد: أن هؤلاء سوف يحصلون إذ تركوا أموالهم وديارهم وما يملكون وراءهم من أجل الإسلام على الفضل في الدنيا، وعلى رضوان الله تبارك وتعالى في الآخرة. وهذا هو ما حصل بالفعل وهو ما يمكن بيانه من خلال البحثين التاليين:
البحث الأول: حصولهم على الفضل في الدنيا
وهذا واضح من خلال ما أصبحوا بعدُ عليه من حديث حسن عند إبناء البشرية جميعهم في تداولاتهم ومحاوراتهم اليومية، فالكل جعل منهم موضع مدحه وثنائه. وها نحن نعتبرهم الطبقة الرائدة في المجتمع الإسلامي، والشريحة القدوة؛ فهم الذين أخذوا على عاتقهم بناء الإسلام وتأسيسه وإرساء قواعده مع رسول الله| لا من أجل طمع، ولا من أجل أمر دنيوي، فإنهم كانوا يجاهدون مع رسول الله| في سبيل الله وحده وفي سبيل طلب مرضاته.
الخليفة الثاني يفاضل في العطاء
ولهذا فإننا نجد أن الخليفة الثاني ما إن وصل إلى الحكم وتسنّم دفّته وقيادته حتى بادر إلى تغيير حكم العطاء، فأخذ يفاضل فيه بين المسلمين؛ معلّلاً ذلك بأن بعضهم أسلم قبل الفتح، وبعضهم أسلم بعده. ذلك أن الوضع الأمني قبل الفتح كان على المسلمين جدّ عسير؛ إذ إن الدعوة الإسلامية كانت قد مرّت بمرحلة مخاض عسير وصعب واجه المسلمون خلالها الكثير الكثير من المحن والصعاب والويلات، فضلاً عمّا صاحب ذلك من تعذيب وتقتيل وتشريد، ومصادرة أموال؛ لاتّباعهم الدين الإسلامي الجديد. في حين أن كل ذلك قد اختلف، بل اختفى بعد عام الفتح فقد انتهت الرقابة الشركية القرشية على الإنسان المسلم، فكان كلّ من يريد أن يسلم يجد الطريق معبّدة أمامه إلى الإسلام، ولا يجد أي مواجهة، أو مجابهة، أو تعذيب، أو غير ذلك؛ فهو يسلم إذن وهو مطمئنّ البال على نفسه وأهل بيته، وآمن على حياته ومتعلّقاته وأمواله.
ومن هنا كانت الرؤية مختلفة بين من أسلم في ذينك الزمانين عند الخليفة الذي ارتأى أن اُولئك الذين أسلموا قبل الفتح، ولاقوا ما لاقوا ممّا ذكرنا لابدّ أن يحتسب لهم الفضل على هؤلاء الذين أسلموا بعده؛ وبالتالي فإنه ينبغي أن يكون لهم التفضيل بالعطاء.
والظاهر أن نظريته هذه تبتني على أن هؤلاء الذين أسلموا بعد الفتح إنما جاؤوا من أجل مال يريدونه، أو منصب يطلبونه دون أن يذوقوا تلك المعاناة التي ذاقها المهاجرون قبل الفتح، والذين لم يهاجروا لأجل مال أو متاع، بل لأجل طلب رضوان الله سبحانه وتعالى؛ حتى يعرفوا معنى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وبطبيعة الحال فإن بعض الصحابة خالفوه الرأي في هذا المجال، وكانوا يرون أن الأموال الخراجية ينبغي أن توزع أو تقسم بالتساوي بين المسلمين، أما مسألة الفضل هذه فمردها إلى الله سبحانه وتعالى الذي هو المتكفل الأوحد بالتمييز بينهم في المنازل يوم القيامة. وعلى أية حال فإننا نعتبر أن هؤلاء من الرواد الذين أسسوا لنا قواعد الإسلام في وقت كان المسلم يعيش فيه شرف العيش والفاقة والضيق والمتابعة والملاحقة، بل إن بعضهم كان لا يجد له رغيفاً يأكله، أو ما يقيم إوده، فيبيت طاوياً أياماً وليالي رابطاً على بطنه حجر المجاعة.
يتبع…