الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 03
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
الفصل الأوّل
في بيان مفاسد بعض الوجوه المزيّفة [وصلت]([1]) إلينا في إثبات المذهب المختار، فنقول: منها ما أفاده المحقق العلّامة الدواني+ في رسالته الجديدة في إثبات الواجب، حيث قال: (نقول: نظرنا في نفس الوجود المعلوم بوجه ما، فأدّانا البحث والنظر إلى أنه أمر قائم بذاته، [و] هو الواجب. ومحصّله أنا نظرنا في الوجود المشترك بين الموجودات، فعلمنا أن اشتراكه ليس اشتراكاً عُروضياً، بل اشتراكاً من حيث النسبة. فظهر أن الوجود الّذي ينسب إلى جميع المهيّات أمر قائم بذاته، غير عارض لغيره، واجب لذاته، كما أنه لو نظرنا إلى مفهوم الحداد والمشمس([2]) توهّمنا في بادئ النظر أن الحديد والشمس ليسا مشتركين بحسب العروض، بل اشتراكهما بحسب نسبة كلّ من تلك الأفراد إليهما. ظهر أن توهّم العروض كان باطلاً، وأن ما حسبناه عارضاً مشتركاً، [هو]([3]) غير عارض في الواقع، بل أمر قائم بذاته، ولتلك الأفراد نسبة خاصّة إليه، فليس هناك شمسان ولا حديدان.
وأنت خبير بأن كون الوجود عارضاً للمهيّات على ما هو المشهور الّذي ينساق إليه النظر الأوّل، لا يصفو عن الكدورات المشوّشة للأذهان السليمة، لاسيّما على ماتقرر عند المتأخّرين من أن ثبوت الشيء للشيء وعروضه له فرع ثبوت المثبت له في نفسه؛ إذ الكلام في الوجود المطلق، وليس للمهيّة قبل الوجود المطلق وجود حتى يكون الاتّصاف به فرعاً لذلك الوجود. وما قاله بعضهم من أن الاتّصاف بالوجود إنما هو في الذهن لا يجديهم نفعاً؛ لأنه إذا نقل الكلام على الاتّصاف بالوجود الذهنيّ، لم يكن له مهرب. واستثناء الوجود عن المقدّمة القائلة بالفرعيّة تحكّم، على أن مشاهيرهم قدحوا في هذا الاستثناء.
والقول بأن ثبوت الشيء للشيء إنما يقتضي ثبوت ذلك الشيء إذا كان ثبوته له على نحو ثبوت الأعراض لمحالّها، لا على نحو ثبوت الأوصاف الاعتباريّة، يقدح في إثبات الوجود الذهني؛ إذ مدارُه، على أن المعدومات الخارجيّة متّصفة بحسب نفس الأمر بصفات ثبوته، فتكون موجودة في نفس الأمر؛ وإذ ليس وجودها [في]([4]) الخارج فهي في الذهن. ومن البيّن أن المعدومات الخارجيّة لا تتصف بالأعراض، بل إنما تتّصف بالصفات الاعتباريّة فقط.
ثم من البيّن أنه إذا كان الوجود وصفاً للمهيّة، وكان أثر الفاعل هو اتّصاف المهيّة بالوجود على ما تقرّر واشتهر عنهم، لزم أن يكون الصادر عن الفاعل هو ذلك الأمر النسبيّ. وظاهر أن النسبة فرع المنتسبين، فلا يصح كونها أوّل الصوادر إلى غير ذلك من الظلمات التي تعرض من القول لعروض الوجود للمهيّات. وعلى ما ذكرنا لا شيء من الشبهات).
هذا ما أفاده، وأقول: هذا البحث والنظر الّذي أدّاه إلى القول بقيام الوجود بذاته أنه جزئي حقيقيّ واجب بالذات، والممكنات موجودة بالانتساب إليه، والوجود المشترك اشتراكه من حيث النسبة لا من حيث العروض، إن كان غير ما يستفاد من ذيل قوله: (وأنت خبير)، وما يستفاد منه تأييد له، فأنت خبير بأنه مطالب ببيان هذا البحث، والنظر حتّى ينظر فيه. وإن كان ذلك البحث والنظر هو بعينه ما أفاده في ذيله كما هو الظاهر، ففيه نظر:
أما أولاً، فلأنه هب أنه على القول بالفرعيّة، لا يصحّ عروض الوجود للمهيّات مع أنه فيه مافيه، على ما سنشير إليه، لكن الحق عنده ـ كما صرّح به في حواشيه القديمة ـ الاستلزام، أعني: أن ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوت المثبت له.
وعلى القول بالاستلزام يصحّ عروض الوجود للمهيّات في نفس الأمر على ما صرّح به في بعض حواشيه القديمة، حيث قال: (ثم نقول: اتّصاف شيء بآخر في نحوٍ من الوجود إن وجب أنّ يتأخّر عنه اتّصافه بذلك النحو من الوجود، لزم ألّا يكون نفس الأمر ظرفاً للاتّصاف بالوجود في نفس الأمر، وإلّا تقدّم على نفسه، أو يتسلسل، وإن لم يجب تأخّره لم يتمّ الدليل على أن الاتّصاف بالوجود الخارجيّ ليس في الخارج.
ولا محيص عن ذلك إلّا بأن يقال: المعتبر في الوجود الّذي هو طرف الاتّصاف هو أن يمتاز الموصوف بحسب ذلك الوجود عن الوصف، والمهيّة لا تمتاز بحسب الوجود الخارجيّ عن ذلك الوجود، بل بحسب الوجود في الذهن، لكن تمتاز عن الوجود في نفس الأمر بحسب الوجود في نفس الأمر؛ إذ للعقل أن يعتبر المهيّة بدون ملاحظة الوجود، فحينئذٍ توجد المهيّة في نفس الأمر ممتازاً بحسب هذا الوجود عن الوجود في نفس الأمر وإن كان غير ممتاز عنه بحسب نحو آخر من الوجود، في نفس الأمر أيضاً، فليتأمّل هذا). انتهى.
وسوق كلامه في هذه الرسالة أيضاً لا يخلو عن إشارة إلى صحّة العروض على القول بالاستلزام كما لا يخفى. وإذا صحّ العروض على القول بالاستلزام الّذي هو الحقّ عنده لا يكون هذا البحث والنظر ـ وهو عدم صحّة العروض على تقدير الفرعيّة الّتي ليس تحق لافي الواقع ولا عنده ـ مؤدّياً إلى كون الوجود جزئيّاً حقيقيّاً قائماً بنفسه مشتركاً من حيث النسبة، وهو ظاهر.
وأما ثانياً، فلأنه على تقدير عدم عروض الوجود للمهيّات بحسب نفس الأمر مطلقاً لا يلزم ما ادّعاه، ولم لا يجوز ألّا يكون الوجود عارضاً للمهيّات في نفس الأمر أصلاً، ويكون موجوداً به المهيّات باتّحادها مع مفهوم الموجود ـ كما اختاره بعض الأعلام([5]) ـ لا بعروض الوجود؟ لابد لنفي ذلك من دليل.
وأيضاً لم لا يجوز أن يكون صحّة انتزاع الوجود عن المهيّات كافياً في موجوديّتها، وإن لم تكن تلك الصحة اتّصافاً وعروضاً بناءً على ما قرّره من معنى الاتّصاف؟ وصدق المشتق على شيءٍ لا يستدعي قيام مبدأ الاشتقاق به، ولا اتّصافه به كما اعترف به في هذه الرسالة، بعد ما ناقش في ذلك قديماً.
والحاصل، أنه لا يلزم من عدم عروض الوجود للمهيّات في نفس الأمر كونه جزئياً حقيقيّاً مشتركاً من حيث النسبة؛ لقيام احتمالات اُخر في موجوديّتها لابدّ من إبطالها في إثبات المطلق على مالا يخفى.
وأما ثالثاً، فلأن ما ذكره من أن (القول بأن ثبوت الشيء للشيء إنما يقتضي ثبوت ذلك الشيء إذا كان ثبوته له ثبوت الأعراض لمحالّها لا على نحو ثبوت الأوصاف الاعتبارية، يقدح في إثبات الوجود الذهني) ممنوع؛ لأن هذا القائل لعلّه يقول: إن ثبوت الأعراض لمحالّها يقتضي تقدّم ثبوت المثبت له بخلاف ثبوت الأوصاف الاعتباريّة، فإنه لا يقتضي تقدّم ثبوت المثبت له والموصوف، بل إنما يستلزمه فقط.
وتلك التفرقة غير [مستنكرة]([6]) قطعاً، ولا يقدح في إثبات الوجود الذهنيّ أصلاً كما لا يخفى.
وأما رابعاً، فلِأن قوله: (ثمّ من البيّن أنه إذا كان الوجود وصفاً للمهيّة)… إلى آخره إنما يدلّ ـ على تقدير تسليم جميع مقدّماته ـ [على] أن أثر الفاعل ليس الاتّصاف بالوجود، بل هو نفس المهيّة عند المحقّقين، لأن المهيّة لا تتصّف بالوجود في نفس الأمر، ولم لا يجوز أن تتصّف بها المهيّة في نفس الأمر، ولم يكن الاتّصاف به أثراً للفاعل بالذات، فلا يلزم ما هو مطلوبه أصلاً؟.
ثم قوله: (والظاهر أن النسبة فرع المنتسبين) محلّ نظر. وكذا قوله: (وعلى ماذكرنا لا يتوجّه شيء من الشبهات).
ويتبيّن مما ذكرناه أن كلامه([7]) في هذا المقام ضعيف جدّاً لا يُسمن ولا يغني من جوع قطعاً، فتدبّر.
يتبع…
___________________