الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 02
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
المقصد الأوّل
في إثبات تفرّد الواجب الحقّ تعالى شأنه بالموجود الحقيقيّ، وكون غيره [موجوداً]([1]) بالانتساب إليه والارتباط به. وهو يشتمل على مقدّمة وفصلين:
المقدّمة
في استيفاء الآراء والأهواء في كيفيّة نسبة الوجود إلى الموجودات من الواجب والممكنات، [و] تلخيص كلام كلّ من تكلم في هذا المرام، فنقول: المذاهب والآراء في هذا مختلفة، والتتبّع والتفحّص دلّ على أنها تسعة:
الأول: ما هو المشهور عند جمهور المتكلمين([2]) من أن للوجود معنًى بديهيّاً غير موجود في الخارج، زائداً في الموجودات كلّها. وللواجب حقيقة غير معلومة، وقيل: معلومة، والوجود زائد عليها، عَرَضَ لها كما في سائر الممكنات.
الثاني: ما هو المشهور عند المتأخّرين من المتفلسفين([3])، من أن الواجب فرد خاصّ للوجود، فهو الوجود الخاصّ، والوجود العامّ البديهيّ اعتباريّ زائد في الكلّ من الواجب والممكنات، وهو في الواجب معلّل بذاته، وهو الوجود الخاصّ الذي لا يمكن أن يُعلم كنه حقيقته أصلاً.
الثالث: ما قال بعض الأعلام([4]) من أن الواجب موجود بحت، والممكن شيء موجود، والوجود العامّ اعتباري لا عروض له للمهيات في نفس الأمر أصلاً، بل بمحض الاعتبار. سيجيء تحقيق ذلك وتفصيله.
الرابع: ما نسب إلى المشّائين([5]) من أن الوجود له أفراد مختلفة الحقائق، وأحد أفراده حقيقة الواجب، وهو وجود خاصّ، وله أفراد اُخر، كلّ وجود خاصّ مخالف لحقيقة الواجب، مختلف مخالف لبعض، والوجود المعلوم بديهيّته لازم عامّ لتلك الوجودات الخاصة. ولكل ممكن وجود خاصّ عارض له، قائم به، حالّ فيه.
والمتأخّرون([6]) بأسرهم قد تصدّوا لإبطاله في كتبهم المتداولة بالتمسّك بالمقدّمة المشهورة، وهي أن ثبوت الشيء للشيء فرع لثبوت المثبت له([7])، فكيف يكون وجود الشيء حالّا ً فيه؟ وقد يناقش في تلك المقدّمة.
والأولى عندي أن يقال: كلّ ما اتّصف بشيء، أو حصل له شيء لابدّ أن يكون حاصلاً متحصّلاً من غير ذلك الشيء وبدونه، ومع قطع النظر عنه على ما تشهد به الفطرة السليمة، والمنازع في ذلك مكابر. فوجود الشيء لا يكون حالاً فيه أصلاً. ولا يبعد أن يفسّر المقدّمة المشهورة بما ذكرناه.
وكذا ما أفاده المحقّق الدواني من أن الموصوف بأمر لابد أن يكون في طرف الاتّصاف غير مخلوط بذلك الأمر، فافهم.
الخامس: ما ينسب إلى شيخ الإشراق([8]) من أن الوجود هو الظهور والنور، وهو حقيقة واحدة له أفراد مختلفة بالكمال والنقص كالنور. وأكمل أفراده هو الواجب الغنيّ عن الكل، وسائر أفراده الناقصة ممكنات [فبعض]([9]) من تلك الأفراد الناقصة مجرّدات، [و]([10]) بعضها أضعف من بعض، وبعض آخر عارضة للمهيّات الظلمانيّة الجسمانيّة، كنور الشمس والكواكب. وما يرد عليه ـ ممّا يختصّ بي ـ أنه هب أن حقيقة الكامل يمكنه أن يكون بعينه حقيقة الناقص، لكن لا يمكنه أن يكون حقيقة الواجب بعينه حقيقة الممكن. وكيف يمكن أن يكون حقيقة ما هو بنفس ذاته وحقيقته مبدأ لانتزاع الوجود والموجودية ـ أعني: الواجب ـ عين حقيقة ما ليس كذلك البتة؟. و[كنّا]([11]) قد فصلنا ذلك في بعض رسائلنا.
السادس: ما ينسب إلى المتصوّفة([12]) على ما هو المشهور من أن الوجود واحد موجود هو الواجب تعالى شأنه، وسائر الموجودات من الممكنات عارضة له حالّة فيه، قال قائل منهم:
الوجود في رأي أصحاب القيود *** ليس إلّا عارضاً لأعيان الحقائق
ولكن في مكاشفات أرباب الشهود *** كل الأعيان عارضة والمعروض هو الوجود([13])
على ما هو ظاهر عبارته، أو أن سائر الموجودات من الممكنات خيالات غير محقّقة، وتوهّمات باطلة. ومفاسد كلا القولين لا تخفى على اُولي النهى، ولعلّ مرادهم غير ما هو ظاهر عبارتهم، على ما بيّنّاه في بعض رسائلنا.
السابع: ما يتراءى من أقوال بعضهم على ما قيل من أن الوجود بهذا المعنى المعلوم بديهة كنه حقيقة الواجب ونوعه، وله أفراد اُخر عارضة للممكنات، والكلّ نوع واحد وليس لشيء من الموجودات الخاصّة حقيقة مجهولة. وفساد هذا المذهب أظهر من أن يخفى؛ فإن كون الوجود بالمعنى المصدريّ أو المفهوم الموجود المطلق الكلي حقيقةً للواجب بذاته ظاهر البطلان. ثم اشتراك الواجب مع عوارض الممكنات في تمام الحقيقة مما لا يقول به عاقل، وفساده ظاهر جليّ، والحقّ أنه لم يذهب إليه ذاهب.
الثامن: ما ذهب إليه بعض أعاظم الأعلام([14]) من أن الواجب الحقّ عين الموجود الحقيقيّ، وهو الإنّ الحقّ، وجمع المجرّدات وبعض المادّيّات عين الإنيّة الّتي هي الوجود بمعنى ما به الحصول لا الحصول، وبعض آخر من الماديات ـ وهو المهيّات ـ موجودة بالتعلّق بالإنيّة. وفيه ما فيه.
التاسع: ما هو ذوق المحققين من الحكماء، ومشرب المتألّهين من العرفاء من أن الواجب الحقّ هو الوجود الحقيقيّ القائم بذاته، وسائر الموجودات من الممكنات موجودة بالانتساب إليه، والارتباط به انتساباً لا يعلم كنهه إلّا الراسخون في العلم([15]). وهو المختار عندي، وساُبيّنه بوجه وجيه تفرّدت به، ثم إني ما تصدّيت لذكر مفاسد بعض الأقوال والمذاهب الباطلة إما لغاية لشهرتها، أو لأن في إثبات مذهب المختار غنية عنه كما لا يخفى على اُولي النهى.
يتبع…
________________
([3]) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة (الملا صدرا) 1: 112، الحواشي الخليليّة على عدة اُصول الفقه / الحاشية الاُولى (الملّا خليل): 58.
([4]) ثلاث رسائل (المحقق الدواني): 168.
([5]) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 1: 43.
([7]) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 1: 245، كلمات مكنونة من علوم أهل الحكمة والمعرفة (الفيض الكاشاني): 14، شرح المواقف (الشريف الجرجاني) 2: 132.
([8]) مجموعة مصنفات شيخ الاشراق 2: 106.
([12]) الحكمة المتعالية 1: 255.
([13]) ورد هاذان البيتان في المخطوط باللغة الفارسيّة، وقد ترجمناهما خدمة للقارئ.
([14]) الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 2: 335.
([15]) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة 1: 371 ـ 373.