التضحية في سبيل الله ـ 13

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

البحث الثالث: أنموذجان من تطبيقات الآية الكريمة

حينما نرجع إلى تاريخ الإسلام، وتحديداً إلى بدايات ظهوره ونزوله، فسنجد أن الكثير من المسلمين قد اتصفوا بهذه الصفة التي ذكرتها الآية الكريمة في المقام، وهؤلاء على نحوين:

الأول: من خرجوا بمحض إرادتهم.

الثاني: من أخرجتهم قريش كرهاً وتعسّفاً وظلماً وجوراً.

وهنا سوف نتناول أنموذجين حيّين ومشرّفين من تلك الشريحة الخيّرة التي امتثلت أمر الله سبحانه في الخروج من مكة المكرّمة؛ طلباً للهجرة إلى المدينة المنوّرة بمحض إرادتهم؛ رغبة في الله سبحانه وتعالى وفي ثوابه وعطائه، وطلباً لرضوانه، وكان هؤلاء يمثّلون واقعاً مشرّفاً، ونماذج سامية حق لها أن تحتذى وأن تمتثل وأن يسار على خطوها.

الأنموذج الأول: الصحابي الليثي

يذكر المفسرون أنه حينما نزل قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً([1])، وما بعدها([2])، كتب المسلمون بهذه الآيات، وبعثوها إلى إخوانهم من أهل مكة، فخرج حينئذٍ منها جماعة، فقالوا: لم يبقَ لنا عذر في البقاء في مكة. فهاجروا.

وكان عتاة المشركين وأزلامهم في مكة المكرّمة يعتقلون المسلمين الذين بقوا فيها، ثم يقولون لهم: اكفروا بربّ محمّد، وتبرّؤوا من محمد (صلّى الله على محمد وآل محمد). فإن فعلوا تركوهم، وإن رفضوا جلدوهم بالسياط، وعذّبوهم بالنار([3]).

فكان بعض المسلمين يستشعرون الذل والهوان وهم يتعرضون إلى هذه المعاملة القاسية، ويأبى الله لمسلم ذلّاً وهواناً، فكان أن نزلت هذه الآية الكريمة ـ وهي قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ…﴾ ـ تأمرهم بالهجرة إلى المدينة المنورة، مبينة لهم أن البلد الذي لا يوفر لساكنه كرامة، ولا يحفظ له وجوده، ولا يعطيه أبسط حقوقه وحرياته في ممارسة طقوسه وعباداته لهو بلد حق على الله أن يعذب أهله، وهو بلد حق على ساكنيه أن يهجروه ويتركوه؛ طلباً للسلامة والعافية في دينهم ومعتقدهم؛ ذلك أن مثل هذا البلد الذي يسلب الحريات والكرامات، ويمسخ الوجود الإنساني بمنع أفراد الإنسانية من ممارسة حرياتهم وطقوسهم وعباداتهم لهو غابة حيوان تؤوي حيوانات شرسة كاسرة، ووحوشاً قاتلة ليس لها من هدف سوى مواجهة الإنسان الحر والقضاء عليه.

وبهذا فإنه حتماً بلد ينقلب ويتحوّل إلى جحيم لا يطاق؛ الأمر الذي يعني أنه لا ضرورة للبقاء فيه حينئذٍ.

ومن هنا جاء الأمر الإلهي للمسلمين بضرورة الخروج من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ حتى يحفظوا دينهم وعقائدهم ووجودهم؛ لأن حرمة الإنسان المسلم عند الله عظيمة، بل هي أعظم من البلد الحرام كما ورد عن الرسول الأكرم|([4]). وهذا يعني أن الآية الكريمة تمنع هؤلاء من أن يجعلوا من أنفسهم ووجودهم عرضة للهوان وهدر الكرامات وتوهين الشخصيات والوجود؛ كون أرض الله واسعة؛ فعليهم إذا أن يهاجروا فيها إلى أي مكان يحفظ لهم وجودهم وكراماتهم ودينهم ومعتقداتهم.

نعم، ما إن نزلت هذه الآية الكريمة حتى بعث بها النبي الأكرم محمد المصطفى| إلى مسلمي مكة مبيّناً لهم ضرورة امتثال الأمر الإلهي الكريم، وأن القرآن قد نزل بما يمنحهم فرصة للخلاص من المشركين، والنجاة منهم بالدين والمعتقد؛ إذ يأمرهم بالهجرة من دار الذل والهوان إلى أي مكان يمكن أن يحافظوا به على دينهم وكراماتهم.

وهنا يأتي دور الاُنموذج الأول، وهو الصحابي الليثي الذي يروي المؤرّخون أنه كان سبب نزول الآية الكريمة: ﴿إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً([5])، ذلك أنه حينما نزلت الآية الكريمة الآنفة، أعني قوله جلّ وعلا: ﴿الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ…﴾، وأمر النبي الأكرم| بعرضها على مسلمي مكّة ممّن لم يتمكّن من الهجرة معه|، كان ما أرادت السماء؛ فبُلّغت الآية الكريمة لهم، وبلغهم الأمر الإلهي بضرورة الهجرة إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى رسوله|.

 وكان من ضمنهم أحد الصحابة من بني ليث ـ وكان شيخاً كبيراً، مُسنَّـاً مريضاً ـ فلمّا قُرئت عليه وسمعها، قال: والله لا أبيت ليلة واحدة في مكّة بعد الذي سمعته من هذه الآية. ثم رفع رأسه وقال: اللهم أبلغتَ المعذرة والحجّة، ولا معذرة لي ولا حجّة. اللهم إني أنصر رسولك بنفسي غير أني أعود عن سواد المشركين إلى دار الهجرة، فأكون عند النبي|؛ فأكثر سواد المهاجرين والأنصار.

وكان له أربعة أولاد ذكور، فقال لهم: احملوني إلى دار الهجرة؛ فأكون مع النبي|. فحملوه حتى وصلوا به إلى «التنعيم» فأدركته علائم الموت، فبسط إحدى يديه وضرب بالاُخرى عليها، وقال: اللهم بيعة لك، ومثلها لنبيك، اُبايعك على ما بايعك عليه رسولك. ثم أطبق جفنيه، ولحقت روحه النقية بربه.

فلمّا مات بلغ خبر خروجه وخبر موته أصحاب رسول الله|، قالوا: مات قبل أن يهاجر؛ فلا ندري أعلى ولاية، أم لا. فنزل قوله تبارك وتعالى مجيباً على تساؤلاتهم، وحيرتهم هذه إزاءه: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾([6]). فلما نزلت، ترحّم عليه النبي الأكرم|([7]).

ومع أن الآية الكريمة مورد الحادثة قد أتبعها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إلّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً﴾، فاستثنت هؤلاء الذين لا قوة لهم على السفر لمرض أو ضعف أو عجز وكبر وبهذا فإنها تكون قد أعطتهم الرخصة والإذن في ألّا يخرجوا، وأن لهم أن يمكثوا في بلدهم مكة وفق الاستثناء الوارد في الآية الكريمة نجد أن هذا الرجل قد أصر على الخروج واللحاق برسول الله| ومبايعته، فكان أن نزل فيه قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾.

يتبع…

_________________________

([1]) النساء: 97.

([2]) أي الآيات الشريفة اللاحقة لها، وهي قوله تبارك وتعالى: ﴿إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً﴾. النساء: 98 ـ 100.

([3]) انظر التبيان في تفسير القرآن 3: 306.

([4]) قال رسولنا الأكرم ونبيّنا الأعظم محمد المصطفى| يوم الحجّ: «إن الله عزّ وجل حرّم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه». الخصال: 487، باب الواحد إلى اثنى عشر، ح63. عوالي اللآلي 1: 161 / 151. بحار الأنوار 21: 381. مجمع الزوائد 3: 20. صحيح ابن خزيمة 4: 299. المنتقى من السنن المسندة (ابن الجارود النيسابوري): 212.

([5]) النساء: 98 ـ 100.

([6]) النساء: 100.

([7]) انظر: الدرّ المنثور 2: 208. الإصابة 1: 618 / 1235. اُسد الغابة 1: 303، والروايات مختلفة في تحديد اسمه. وروي كذلك في سبب نزولها أن المشركين يوم بدر حينما خرجوا إلى المعركة لم يخلفوا أحداً، إلّا صبياً، أو شيخاً كبيراً، أو مريضاً. فخرج معهم ناس ممن تكلم بالإسلام، وكان بعضهم يستخفي بالإسلام، فلما التقى المشركون، ورسول الله، نظر الذين كانوا قد تكلموا بالإسلام إلى قلة المسلمين، فارتابوا وأصيبوا فيمن أصيب من المشركين، وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾. انظر: مجمع البيان 3: 169. تفسير القرآن العظيم (ابن أبي حاتم) 3: 1046 / 5863.

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة