التضحية في سبيل الله ـ 12
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
المبحث الخامس: في صفة الفقراء
ثم انتقلت آية المقام الكريمة لتقول: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ وقد أشرنا سابقاً، ونوهنا مراراً وتكراراً أن مسألة الفقر لها مردودات سلبية على المجتمع وعلى الفرد نفسه؛ كونه يأخذ بيد صاحبه إلى عالم الجريمة، ومحاربة المجتمع والوقوف بوجهه؛ إذ إن الفقير ينظر إلى هذا المجتمع على أنه قد سلبه حقه، وتمتّع بأمواله على حساب راحته واستقراره، فراح يتلذّذ بالحياة في الوقت الذي حرم هو منها. ومجرد حصول مثل هذا التفكير عند هذا الإنسان فإنه حتما سوف يتحوّل إلى أداة قابلة للانحراف، فيصبح من اليسير عليه أن يبيع نفسه للشيطان، وأن يتاجر بدينه وأخلاقه، ولا يتردّد لحظة في أن يتحوّل إلى أداة إجرامية يعود ضررها ووبالها الوخيم على المجتمع. والحديث حول هذا الأمر يقتضي الولوج إليه من خلال الأبحاث التالية:
البحث الأول: خصائص النفس البشرية
على ضوء ما مرّ جميعه يمكننا القول بأن القرآن الكريم من خلال هذه الآية الكريمة، ومن خلال منظومة من الآيات الاُخر التي تكفّلت بمعالجة هذا الموضوع نفسه يدعو إلى القضاء على ظاهرة الفقر، وإلى معالجتها من جذورها؛ حتى لا يتبيغ بالفقير فقره كما يقول أمير المؤمنين×([1])؛ وعليه فإن القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة يريد أن يؤكد على خطورة هذه الظاهرة، وضرورة مراعاة من يتصف بهذه الصفة، والعطف عليهم، وفي الوقت نفسه التشنيع على أولئك الذين يتصرفون بوحي من هواهم، وداعٍ من خواطر أنفسهم وخلجاتها دون أن يكون عندهم وعي ـ أو إنهم ربما يعون ما هم مقبلون عليه، وما يفعلونه ـ ودون أن يدركوا الخاتمة التي يمكن أن تنتهي إليها هذه النفس الإنسانية؛ فيبقون على غيهم، وعلى ضلالهم متلذّذين بالنظر إلى معاناة الناس وهم يعيشون الفقر دون أن يمدوا إليهم يد الإعانة، ودون أن تتحرك عندهم مشاعر الإنسانية؛ فيصيبهم منها شيء يرفع من معنوياتهم، ويهدئ من خواطرهم؛ فتركن نفوسهم وتسكن.
البحث الثاني: في المراد من الديار
إن الآية الكريمة إذ تقول: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ فهي إنما تشير إلى حالة من الحالات التي يمر بها كل مستضعف على هذه الأرض يحارب من أجل دينه وعقيدته، ووطنه، ومعيشته وحياته. ولأهمية الوطن، ولرسوخه في نفس مواطنه، ولصوق ترابه بوجدانه وأحاسيسه، وصيرورته وصاحبه وحدة عضوية واحدة، عمد هؤلاء المتسلّطون الطغاة إلى تغريب أولئك المستضعفين عن ديارهم وبلادهم وأوطانهم؛ وهذا يعني أن المراد من الديار في آية المقام الكريمة: الأوطان.
إننا نعي أن الإنسان إذا ما جرد عن وطنه، أو نفي عنه([2])، فإنه سوف يتحول إلى كيان ضائع هائم في هذا الوجود، فإن أضفت إلى ذلك تجريده من أمواله وممتلكاته، فإنك تكون قد عرّضت كرامة هذا إلى الهدر، أو دينه إلى الضياع؛ لأنه بفقد وطنه وأمواله سوف يضطر إما إلى مد يده لاستعطاء الآخرين واستجدائهم؛ وبهذا يكون قد هدر كرامته، أو إلى اللجوء إلى الأساليب المرَضية الملتوية للحصول على المال كالسرقة وقطع الطرق وما إلى ذلك من وسائل كسبٍ غير مشروع؛ وهو الأمر الذي يؤدي إلى تحوله من عنصر نافع للمجتمع إلى عنصر ضارّ له.
إذن فهذا الذي سلب وطنه وماله ربما يكون أهون عليه أن يموت دون أن يمد يده إلى الآخرين؛ فالموت عنده أيسر من أن يستعطي، أو أن يجعل لأحد عليه منة([3]). ومن هنا جاء التأكيد الإلهي المقدس على ضرورة معالجة ظاهرة الفقر ومحاربتها والقضاء عليها تماماً داخل المجتمع؛ حتى لا نخلق من بعض أفراده وطبقاته عناصر ضارة به مما أشرنا إليه آنفاً، وأكّد كذلك على ضرورة أن يراعى هؤلاء الفقراء، وأن تدفع لهم حقوقهم الثابتة عند الله تعالى في أموال الأغنياء.
وهذا حتماً لا يكون إلّا من خلال تطبيق واعٍ وكامل وصحيح لأحكام الشريعة الإسلامية في هذا المجال، والتي تعني إعادة توزيع الثروة، وإيجاد خطة جديدة لتدويرها داخل المجتمع من خلال استخلاص بعض هذه الأموال من أيدي الأغنياء عبر تشريع قانون الضرائب الإسلامية على نحويه الواجب والمستحب.
إذن فالقرآن الكريم إنما يؤكد هنا على ظاهرة إعادة توزيع الثروة داخل المجتمع؛ حتى لا يبقى فيه فقير يستشعر الفقر والذل والهوان نتيجة مد يده للآخرين، أو تصدّقهم عليه؛ حتى لا يتحوّل إلى عنصر إجرامي داخل المجتمع. فكان أن شرّعت السماء قانون الضرائب الذي يعني أن الدولة المتّصفة بصفة الشرعية السماوية الإلهية تقوم بأخذ تلك الأموال المفروضة على هؤلاء الأغنياء منهم، وإعطائها للفقراء دون أن يكون للغني في ذلك يد على الفقير أو فضل، أو تفضل عليه، بل إن الدولة ـ وفق اختصاصها وسلطتها، وممارسة حقّها في استخلاص حقوق الآخرين ـ هي التي تقوم بممارسة هذا الدور؛ حتى لا يستشعر الفقير بالذلّ والهوان أمام من يتصدق عليه أو يعطيه.
ومن هنا جاء التعبير القرآني الكريم عن هؤلاء بالفقراء الذين استحقّوا العطف والرأفة؛ لأنهم اُناس قد سلبت أوطانهم منهم، وقد جردوا عن أموالهم، وطردوا من بلادهم دون أن يحملوا معهم شيئاً من متاع الدنيا؛ فكانوا أهلاً لهذا العطف، وهذا الاستدرار؛ حتى لا يستشعروا أنهم دون غيرهم من أبناء الإنسانية الذين ـ كما رأينا ـ قد يصدر من بعضهم أعمال تعتبر خارج نطاق الاتّزان، لكننا إنما نعتبرها كذلك لأننا لم نعش ظروفهم الحياتية القاسية التي عاشوها، ولم نلج دهاليز حالتهم النفسية أو الاقتصادية؛ لنعرف حينها كيف يعيشون، وكيف يواصلون حياتهم؛ فنعطيهم المبرّر لما تصرفوه مما نعتبره تصرّفاً غير متزن.
ومن هنا فإننا نؤكد على حقيقة هي أن على الإنسان ألّا يتسرع في الحكم على الآخرين ـ كونه لا يستطيع أن يحكم عليهم وهو خارج الحدث، بل إنه إنما يصح عليه أن يحكم عليهم حينما يتلبس بدورهم الاجتماعي والمعيشي والصحي الذي تلبّسوه ـ فلا يصفهم، ولا يصف تصرفاتهم بما لا يتناسب مع ظرفهم الاجتماعي، وحالتهم النفسية التي كانوا يعيشونها.
وهذا واضح؛ فأي إنسان منا حينما يصبح وحيداً طريداً؛ لا دار تؤويه، ولا وطن يحتضنه ويكتنفه، ولا أموال تدفع عنه صروف الدهر والحاجة إلى الآخرين، فإنه حتما سوف يستشعر ما عاشه هؤلاء من معاناة وبؤس وشقاء. وهذا يعني أن تلبس الإنسان فعلا بدور ذلك الإنسان المجرد من كل شيء سوف يدفعه لا إلى عدم انتقاده فقط، بل إلى مد يد العون له دون أن يشعره بأنه صاحب فضل أو تفضل أو امتنان عليه.
وبهذا يصبح مراد القرآن الكريم أن هؤلاء ينبغي أن يكونوا موضع عطف ورأفة ورحمة من الناس؛ لأن من يخرج من وطنه، ويجرّد من أمواله، يصبح حالة اجتماعية قابلة للانحراف، والإسلام لا يريد لأفراد الإنسانية عامة، والإنسان المسلم خاصة أن ينحرف، أو أن يشذّ، أو أن يزلّ عن الطريق؛ ومن هنا جاء تأكيده على ضرورة مراعاة هؤلاء وحمايتهم وتوفير متطلبات حياتهم عبر الدولة الشرعية المتمثلة آنذاك بالرسول الأكرم| الذي رأينا أنه قد خصهم بمكان يؤويهم، ويضمن سلامتهم وراحتهم في مسجده المشرّف، وأجرى عليهم جرايات من الطعام والشراب والملبس بما يستطيعه، وما يقدر عليه، وما يتيسر له|.
وهذا الأمر ضروري في المجتمع؛ إذ إن تلافي هذه الحالة وهي في مرحلة نشوئها عن طريق العطف على أفرادها سوف يؤدّي إلى القضاء على أي حالة من حالات الانحراف التي يمكن أن يفكر بها الإنسان، أو يحاول المصير إليها، أو تلك التي يمكن أن تحصل بعدُ بسبب الظروف الحياتية القاسية التي واجهوها، والتي تقود من يعيشها راغماً إلى مثل هذا المصير في كثير من الحالات، سيما عند اُولئك الذين لم يتسلّحوا بسلاح العقيدة، أو الذين لم يتقلّدوا عقد مبادئ الدين الحنيف، والإيمان الواعي، ولم يحصّنوا أنفسهم بالإرادة الإلهية الحقة، فلم يحظوا بالفرصة الذهبية المطروحة أمامهم لتحصيل ذلك كلّه.
يتبع…
_______________________
([1]) قال× في حكايته المشهورة مع عاصم، ومحاولة الأخير تقليده× في مذهبه في المأكل والمشرب والملبس: «إن الله افترض على أئمّة العدل أن يقدّروا أنفسهم بالعوامّ؛ لئلاّ يتبيّغ بالفقير فقره ». بحار الأنوار 33: 477، 42: 174، 67: 122. شرح نهج البلاغة 11: 36. العقد الفريد 2: 373 ـ 374.
([2]) ولذا فقد استخدم القرآن الكريم عقوبة النفي على بعض الجرائم؛ لشدتها على نفس صاحبها، فقال عزَّ من قائل في كتابه الكريم: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ المائدة: 33.
([3]) قال الإمام أمير الؤمنين×: «امْنُنْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَکُنْ أَمِیرَهُ، وَاحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَکُنْ أَسِیرَهُ، وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَکُنْ نَظِیرَهُ». الخصال: 420، باب التسعة، ح14، وإن كان المشهور عل ألسن الخطباء بلفظ: «استغنِ عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره».