التضحية في سبيل الله ـ 11

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

المحور الثالث: أثر الفلسفة على التصوف

بعد أن أخذت الفلسفة تمد أصابعها إلى هذا التوجه العرفاني العبادي، بدأت تداخله أفكار غريبة بعيدة كل البعد عن الإسلام وعن مفاهيم السماء، حتى إن بعض الفلاسفة ذهب إلى أن الصوفية هي حركة تترتب فيها أفكار متبعيها على مرحلتين هما في واقعها غريبتان عن التوجّه الإسلامي، والفكر المحمدي الأصيل:

الأولى: التجربة الروحية

أي أن الإنسان يعيش حالة روحية خالصة في اتصاله مع الله سبحانه وتعالى بعد أن ينقطع عن الدنيا ليصبح خاضعا بكيانه كله، ووجوده بأسره إلى الله سبحانه.

الثانية: الاتحاد مع الله

وفي هذه المرحلة يتحول الصوفي من كائن خاضع لله سبحانه، إلى كائن يحل فيه الله سبحانه (تنزه الله عن ذلك وتقدس)، فيصيران هو والله سبحانه ذاتاً واحدة يصبح الأمر من خلالها أنه إذا تكلم الصوفي، فهذا يعني أن الله سبحانه هو الذي تكلم بناء على هذا التوجّه. وهذا توجه خطر وخطير يراد منه العبث بنقاء هذه الحركة، وتشويه صفائها وإقبالها على الله سبحانه، ومسخ حالة العرفان التي كان هؤلاء عليها؛ إذ أدخلوا إليها الفلسفة أوّلاً، ثم راحوا من خلال هذا الدسّ في سلوكياته يوجّهون سهام الكفر والشرك إليها حتى يشوهوا وجودها كاملاً.

الصوفي عند الحلاج

يذكر بعض الكتاب وأصحاب التراجم أن الحلّاج كان يقول: «من أشار إلى الله فهو متصوّف، ومن أشار عن الله فهو صوفي». أي أن هذا الصوفي يصبح أمره أمر الله سبحانه، وقوله قوله جل شأنه، وفعله هو عين فعل الذات الأقدس (تنزه ربنا عن هذا الغلوّ والكفر وتقدّس). فالإنسان إذا ما وصل إلى هذه المرحلة فهو إذن الصوفي الذي يمثّل الذات الأقدس، وإلّا فإنه لم يصل بعد إلى مصاف هؤلاء الذين لهم ما للذات.

مقتل الحلاج

إنني لا أريد أن أدخل المتلقي في متاهات هذا التوجه وطرقه الملتوية التي يسير هؤلاء من خلالها، لكن من باب أن الحديث ذو شجون، وأن الشيء بالشيء يذكر أردت أن أبين للآخر أن هؤلاء أبناء الطبقات المتأخرة من هذه الشريحة قد وصل بهم الأمر إلى ما وصل مما وصفناه من حال الحلاج، وأمثال الحلاج وغيره كثيرون ممن يرون هذا الرأي ويتوجهون هذا التوجه الذي يبنون من خلاله معتقداتهم التي ترتكز إلى أن كل ما في الوجود هو مظهر من مظاهر الله سبحانه وتعالى، وتجلّ لله سبحانه وتعالى في هذا الكون، فكل موجود هو تجلّ لله سبحانه، أي أن الله جل شأنه يظهر ويتجلى من خلال هذه الموجودات كونها موجودة، والله موجود كذلك، وكون وجودها فرع وجود الله سبحانه.

وانطلاقاً من هذا فإننا نجد أن الحلاج كان يقول: ليس في جبتي سوى الله([1]). وكان يقول كذلك: أنا الحق([2]). يعني بهذا حسب الظاهر: أنه هو الله سبحانه وتعالى. وهذه الكلمة هي التي أدّت إلى قتله؛ ذلك أن العلماء في ذلك الوقت ظنوا كفره بهذه الكلمة. وهو قول يدل على أن الوزن الصوفي قد غلب عليه فقال ما قال؛ مما كان سبباً في مقتله.

لقد كانت كلمة قادته إلى حال أخذته السيوف معها، ونتيجة تلفظه بها؛ فأخذ وصلب على خشبة. وأنا في واقع الحال لا أعتقد بأن الحلاج يريد هذا المعنى الذي ذهب إليه هؤلاء وقتلوه بسببه، بل إنه كان يريد أن يقول: إنه مظهر من مظاهر الحقّ سبحانه، وتجلٍّ من تجلياته جل شأنه دون أن يقصد به الكفر الذي رماه به هؤلاء، وجرّموه بسببه، ثم قتلوه.

الدقة في انتقاء اللفظ

ومثل هذا الحال ما ربما يقع من بعض تحت تأثير التسرّع، فيفعل شيئاً مرتِّباً إياه على تسرّعه دون أن يكون ما رتبه وما اعتقده هو مراد الشخص المقتول أو المتكلم. وعلى سبيل المثال نذكر مما يؤيّد المقام لو أن أحداً في مشهد من مشاهد المعصومين^ المشرفة جُرح، فوقع منه دم على الضريح الطاهر، فأراد أن ينبه الآخرين إلى هذه الحالة حتى يتوجهوا إلى المكان المتنجس ويطهروه، فالدقة اللغوية هنا تقتضي أن يقول: إن هذا الجزء من الشباك الطاهر قد تنجس، لكنه تحت تأثير فطرته، وعدم توجهه إلى هذه الدقة في الاستخدامات اللغوية ربما يصرخ: أيها الناس إن هذا الشباك نجس، وهو ما يؤذي السامع؛ كونه شباكاً يمثّل محلّ رحمة الله سبحانه، ويحتوي جسداً طاهراً مطهّراً من الدنس والرجس، وما إلى ذلك. ففي مثل هذه الحال فإن الناس حتما سوف يتسارعون إلى هذا القاتل ليضربوه على ما تجرأ به من قول، وما تفوه به بحق هذا الإمام المعصوم.

والحلاج في واقع الأمر أمره من قبيل هذا؛ ولهذا إننا نرى أن المسألة ليست بذلك الشكل، فهؤلاء أشخاص لهم توجهاتهم ولهم عباراتهم الخاصة ولغتهم المخصوصة التي يتخاطبون بها ضمن السياق السلوكي والخطابي لهذه الحركة، أو يتكلّمون بها مع الناس. وهذا ما يحاول أحد الشعراء المعاصرين إبرازه وبيانه فيقول:

ومحاريب عامرات بآل الـ *** ـله والليل ستره مسدولُ
كل حبر براه حسن خفي *** فهو فيه المتيم المتبولُ
إن تلا آي ذكر هزته منها *** رعدة فهو كالغصون يميلُ
جن بشر الحافي بها وعرا ابن الـ *** ـفارض العشق فهو نضو نحيلُ
وتسامى الحلاج فالله فيه *** حالة ذاب عندها لا حلولُ
عرفوا أن ما سوى الله وهم *** وبأن الحياة مرعى وبيلُ
وحداهم حاد من الغيب فاشتا *** قوا وجدّ السرى ولذ القفولُ
ولنار الحبيب تومئ كفّ *** هذه النار نار ليلى فميلوا
رتعوا بالحمى فهاموا بوجهٍ *** ذي جلالٍ جلاله لا يزولُ([3])

وهذا الموضوع في واقع الأمر مادة خصبة، الحديث فيها ذو شجون وتشعّبات كثيرة لا أودّ أن أغوص فيه أكثر من هذا المقدار. لكن يبقى أمر أردت التأكيد عليه من خلال هذا وهو أن المراد من الفقراء في آية المقام الكريمة هم أهل الصفة الذين خصّهم رسول الله| ببعض ما يفضل عن حاجات المسلمين ليمنح لهم؛ فيكون مداداً لحياتهم؛ قوتاً، أو مالاً، أو لباساً. وكما ذكرنا فإن أهل الصفة هم شريحة من المسلمين قد أعرضوا عن متاع الدنيا وملاذّها، حتى إنهم تركوا وراءهم كل شيء من أجل الإسلام؛ إذ انقطعوا إلى الله سبحانه وتعالى أكثر من غيرهم.

يتبع…

_______________________

([1]) مرآة الجنان وعبرة اليقظان (عبد الله بن أسعد اليافعي): 1: 222. التعليقة على الفوائد الرضوية: 104.

([2]) الفَرق بين الفِرق: 235. إعانة الطالبين 4: 151. مغني المحتاج 4: 134.

([3]) ديوان المحاضر: 413.

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة