التضحية في سبيل الله ـ 10
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
الأنبياء^ يلبسون الصوف
ولبس الصوف ليس بالأمر الجديد ولا الطارئ عند هؤلاء، بل إننا نجد أن سفراء الله سبحانه في أرضه وهم أنبياؤه ورسله كانوا يلبسون الصوف دائما من أجل عدم الركون إلى لذائذ الدنيا، وإلى مسراتها، أو إلى أي شيء له علاقة بالركون إلى شيء من لوازمها. ومن هؤلاء نذكر مثلا:
أولا: النبي موسى×
فحول قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾([1]) يقول القرطبي في تفسيره: روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي الأكرم| حينما كلم الله تعالى نبيه الكريم موسى بن عمران× أنه| قال: «كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف، وجبة صوف، وكمة صوف، وسراويل صوف»([2]). ما يعني أنه× كان يواظب على لبس الصوف؛ ابتعاداً عن لذائذ الدنيا، ومشعرات الرفاهية فيها، ومنها اللباس الرقيق.
الثاني: روح الله×
كما يروي المؤرخون كذلك أن النبي عيسى× كان في سياحته في الأرض وخروجه إلى الصحراء والبرار وهو يعظ الناس ويرشدهم ويدعوهم إلى الله سبحانه كان يلبس الصوف الخشن، ويأكل الطعام الجشب، بل إنه× لم يأكل من طعام لامسته النار قط.
المحور الثاني: نشأة التصوف
إذن فالرأي الصواب في المسألة هو أن هؤلاء إنما سمو صوفية لأنهم كانوا يلبسون الصوف ([3])، كما أن هنالك بعض الآثار التي تعود إلى القرن الأول الهجري تؤيّد هذا الذي نذهب إليه في سبب التسمية. ونحن إذ نتكلم عن موضوع الصوفية فإننا لا نتكلّم عنه كونه محلّ ابتلاء كما ربما يشكل البعض فيقول: إن لم تكن هذه الطائفة كذلك، فلماذا إذا كل هذا الاهتمام بها؟ إن تخصيصنا قدراً من الوقت لهذه الطائفة أو الجماعة لا لأنها محلّ ابتلاء، بل لأنها واقع معاش؛ ذلك أننا إذا ما نظرنا إلى بعض الدول سيما دول شمال أفريقيا كتونس والجزائر والمغرب، بل حتى في بعض أجزاء من مصر فضلاً عن المناطق الوسطى والمناطق الشرقية منها فإننا سوف نجد أن أصحاب هذه الطريقة يشكلون شريحة عريضة بين الناس لها مدارسها وطقوسها وتوجّهاتها؛ الأمر الذي حدانا إلى أن نتكلّم حول هذا الأمر، وأن نبين الكيفية التي نشأ فيها التصوف.
عرفانية التصوّف
إننا مع الرأي الذي يقول: إن التصوف نشأ في أول أمره نشأة عرفانية خالصة، وهذا يعني أن الناس قد أدركوا أن نعيم الدنيا ليس نعيماً حقيقياً، بل إنه نعيم زائل فألّا بقاء له ولا قيمة عنده إزاء نعيم الله الذي أعدّه لعباده المطيعين في الآخرة. وإذا كان متاع الحياة قليلاً، وزينتها فانية، ولذائذها حطاماً فهذا يعني أن على الإنسان أن ينصرف إلى الله عز وجل بكل كيانه ووجوده وجوارحه.
وهذا هو الذي فعله هؤلاء إذ أقبلوا بقلوبهم وأسماعهم ووجدانهم وكيانهم كله على الله سبحانه، ووقفوا أنفسهم له، فانقطعوا عن الدنيا، وأرادوا أن يترفّعوا عن كلّ ملذّاتها، وأن يطرحوها من أذهانهم حتى على مستوى اللباس، فعمدوا إلى أخشنه فلبسوه، وهو الصوف.
لكن هذا التوجه العرفاني عند هؤلاء المتصوفة لم يبقَ على نقائه وصفائه وطهارته، بل إنه راح مع الأيام يتشرب بالأفكار الدخيلة، وتوضع له النظريات الفلسفية، وهو الأمر الذي أخذ بيد أصحابه إلى مسار آخر غير ذلك المسار الذي كان عليه أصحابه وقت نشأته؛ وبهذا فإنه أصبح له مضمون عقيدي، ومنهاج عبادي تسير عليه مجموعة من الناس تبث هذه الأفكار والبرامج الخاصة بها من خلال مدارس لها أنشأتها لهذا الغرض. وبهذا فإن التصوف يكون قد أخذ منحى آخر جديداً بعيداً عن ذلك المنحى الذي كان عليه أيام نشأته، فقد برزت له ملامح أخرى، وسمات جديدة غير تلك الملامح والسمات التي كان عليها عند ظهوره وولادته، وانبثاق فجر عصره.
يتبع…
_________________
([2]) الجامع لأحكام القرآن 11: 173. وذكر في تأويل مختلف الحديث: 290 قال: «إن الله تعالى حينما كلم نبيه الكريم موسى× كان عليه مدرعة من شعر أو صوف. وكان سليمان× وقد آتاه الله من الملك ما لم يؤتِ أحداً قبله ولا بعده يلبس الصوف».
([3]) مع أنهم كانوا يتظاهرون بلبس الصوف في حين أنهم كانوا يلبسون تحته لباساً ناعماً يتقون به خشونة الصوف فكأن لسان حالهم: إننا نلبس الصوف للناس ونلبس هذا الثوب الرقيق لله سبحانه كما نبه الإمام الصادق× من اعترضه كما مرّ آنفاً.