الأصول الخمسة ـ التوحيد ـ 01
السيد نظام الدين ابن السيد أحمد المدني
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
سبحانك اللهم يا هادي المجاهدين فيه سبيله القويم، ومُبلغ السالكين إليه طريقه المستقيم، وفِّقنا للصعود على منتهى مدارج محبّتك، ويسّر لنا العروج إلى ذروة معارج معرفتك، واجذبنا إلى مشاهدة جمالك عن الملاهي، وأرنا حقائق الأشياء كما هي، وصلِّ على ممهّد قواعد التوحيد، ومقنّن قوانين التجريد والتفريد، محمد وآله أصحاب التحميد والتمجيد.
وبعد:
فإني لمّا رأيت أن أجلّ المطالب وأعلاها، وأرفع المآرب وأسناها هو العلم بتوحيد الواجب ذاتاً ووجوداً، فإنه مناط السعادة السرمديّة، وبه تحصل النجاة عن الشقاوة الأبديّة، ووجدت ما ذكره القوم في بيان هذا المطلب الأعلى والمقصد الأسنى مدخولاً معلولاً، لا يهتدي السالك به لكثرة ورود الشبه علىه إلى المقصد والمرام، ولا يطمئن به قلبُ ذي فطرة سليمة تميّز بين أحكام الأفهام، ووساوس الأوهام، صرفت شطراً من عمري في المجاهدة في سبيل هذا المطلب العظيم، والمقصد الجسيم مستعيناً من وليّ الفيض والإلهام، ومستمدّاً من الحكيم العلّام، حتّى اهتديت بعون الله وحسن توفيقه إلى ما يشفي العليل، ويروي الغليل، ولا يبقى فيه مجال لجدال أصحاب العناد، ولا يخفى ما فيه من السداد. فأردت إظهار هذه النعمة الجسيمة والعطيّة العظيمة؛ شكراً لملهم الحقائق وحمداً لواهب الدقائق، فأوردته في هذه الرسالة بأوضح بيان وكلام، بحيث يزيل جميع الشكوك والأوهام، ويثبّت أقدام الإفهام في تحقيق هذا المقصد والمرام.
والمرجوّ ممن ينظر فيها ألّا يبادر في أوّل وهلة على الإنكار لمجرّد سوء ظنّه بقائله، وعدم الاشتهار؛ فإن العلم كما قال صاحب (الإشراق): (ليس وقفاً على قوم، ليغلق بعدهم باب الملكوت، ويمنع المزيد عن العالمين، بل واهب العلم الذي هو بالاُفق المبين، ما هو على الغيب بضنين([1]))([2]). ثم الشهرة شيء والعلم شيء واحد مما لا يستلزم ثانيهما، كما قال الشاعر بالفارسيّة:
لستُ في العلم إماماً لانني لا ** * كالسحاب في سرعة المسير ولا كالرعد في دمدمته
لا تنظرنَّ هيأتي فأنا عندما يقتضي منطق الكلام *** أصوغ مائة نكتة من بديع المعاني([3])
وها أنا قد شرعت في تحرير المقصد والمرام بعون الله الحكيم العلّام، وأوردت [ما أردت]([4]) إيراده من هذه الرسالة في مقصدين وخاتمة.
تمهيد
إن من الموجودات ما هو واجب بالذات، وبيان ذلك بوجه وجيه، جديد سديد، ابتدعته واخترعته يتوقّف على تمهيد مقدّمة هي أن كلّ مفهوم يصدق على أمر في نفس الأمر؛ فإما أن يكون ذاتيّاً لذلك الأمر، أو عرضياً. وإن كان عرضياً فصدقه عليه؛ إما باعتبار نفس ذلك الأمر فيكون هو بذاته مصداقاً له، أو باعتبار غيره. وذلك الغير إما أن يكون أمراً انتزاعياً، أو أمراً عينياً موجوداً في الخارج؛ فإن كان أمراً انتزاعياً، فلابدّ له من مبدأ انتزاعيّ عينيّ موجود في الخارج، وإلّا لم يكن نفسَ أمريّ وهو ظاهر.
وذلك الأمر العينيّ إما أن يكون نفس ذلك الأمر، أو غيره، والأمر العينيّ الموجود في الخارج على التقديرين ـ سواء كان هو بذاته مصداقاً لصدق هذا المفهوم، أو يكون مبدأ انتزاع لما هو مصداقه ـ إما أن يكون أمراً مبايناً لذلك الأمر، بمعنى أن يكون بينهما تعلّق الحلول بوجه أصلاً، سواء كان بينهما ارتباط بوجه آخر أو لا، أو يكون أمراً مغايراً له بينهما تعلق الحلول، بأن يكون أحدهما حالّاً في الآخر، أو [يكونان]([5]) معاً [حالّين]([6]) في ثالث. وهذا حصر عقليّ لا مجال لاحتمال آخر فيه أصلاً، وهو ظاهر بيّن.
وإذا عرفت هذه المقدمة، فنقول: صدق مفهوم الموجود على فرده الموجود في الخارج أيضاً لا يخلو عن أحد هذه الاحتمالات بالضرورة، وعلى بعض تلك الاحتمالات يلزم تحقق الواجب بالذات، وعلى بعض آخر منها يلزم العسر، وهو ممتنع. فلابد أن ينتهي إلى بعض الاحتمالات المستلزمة لتحقّق الواجب بالذات. فعلى كلّ تقدير واحتمال يلزم تحقق الواجب بالذات ووجوده، وهو المطلوب.
بيان ذلك أنه على الاحتمال الأوّل، والأوّل من الثاني، والاحتمال الأوّل من ثاني الثاني يكون الواجب بالذات لا محالة موجوداً.
أمّا على الاحتمال الأوّل ـ وهو كون مفهوم الموجود ذاتيّاً لفرده ـ فلكون ذلك الفرد على هذا التقدير ممتنع الانعدام؛ لامتناع سلب الذاتيّ عمّا هو ذاتيّ له. وهو ظاهر، فيكون ذلك الفرد واجباً بالذات.
وأما على الاحتمال الثاني ـ وهو كون نفس ذات ذلك الأمر مصداقاً لصدق مفهوم الموجود ـ فلأنه إذا كان نفس ذاته مصداقاً لصدق مفهوم الموجود عليه، يكون لا محالة واجباً بالذات؛ لأن الواجب بالذات ما يكون ذاته بذاته مبدأً لانتزاع الموجود ومصداقاً لصدق المفهوم الموجود، على ما حقّق في موضعه.
وأمّا على الاحتمال الثالث ـ وهو كون نفس ذلك الأمر مبدأً لانتزاع ما هو مصداق صدقه ـ فلأنه إذا كان لنفس ذاته مبدأً لانتزاع ما هو مصداق لصدق مفهوم الموجود؛ يكون نفس ذاته في الحقيقة مصداقاً لصدق مفهوم الموجود، فيكون واجباً بالذات أيضاً بالضرورة.
وعلى سائر الاحتمالات الباقية يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب بالذات؛ فإنّا نقول: صدق مفهوم الموجود على ذلك الأمر العينيّ الموجود في الخارج، الّذي فرض أنه مصداق لصدق مفهوم الموجود على ذلك الأمر، أو أنه مبدأ انتزاع لما هو مصداق صدقه؛ سواء كان مبايناً له أو حالاً في محله لا يخلو([7]) عن [أحد]([8]) تلك الاحتمالات بالظاهر. وعلى الأوّل والثاني والثالث منها يلزم تحقّق الواجب بالذات، وهو المطلوب.
وعلى سائر الاحتمالات الباقية ننقل الكلام إلى ذلك الأمر العينيّ الموجود في الخارج أيضاً، وهكذا إلى غير النهاية حتّى يلزم التسلسل في تلك الاُمور الموجودة في الخارج، سواء كانت مباينة لذلك الأمر الذي هو فرد الموجود، أو حالّةً فيه أو محلّاً له، أو حالّةً في محلّه. والتسلسل محال ممتنع؛ فلابد أن ينتهي إلى [أحد]([9]) الاحتمالات الثلاثة المذكورة سابقاً، فيتحقّق الواجب بالذات قطعاً كما ذكر آنفاً.
فإن قيل: ترتّب الاُمور المجتمعة الغير المتناهية محال، والترتّب فيما نحن فيه ممتنع.
قلت: لا ريب في أن صدق الموجوديّة على ما هو مصداق لصدق مفهوم الموجود على هذا الأمر مقدّم بالذات على صدقه على ذلك الأمر بالضرورة؛ فإنه مالم يتحقّق أوّلاً مصداق صدق موجوديّة أمر، لا يتحقّق ذلك الأمر بالضرورة، وهو ظاهر، على أن الترتّب والتقدّم الطبيعيّ بين الحالّ والمحلّ ضروريّ.
ثم إنا نعلم بالضرورة أنه لو كان صدق مفهوم الموجود على كلّ موجود باعتبار ارتباطه بالأمر المباين له لم يصدق مفهوم الموجود على شيء أصلاً، فظهر وتبيّن أن وجود الواجب بالذات على احتمال من تلك الاحتمالات الّتي تجري في صدق مفهوم الوجود على الموجودات، بل صدق كلّ مفهوم على كلّ أفراده ضروريّ لازم قطعاً، وهو ما أردناه([10]).
يتبع…
___________________
([1]) إشارة إلى الآية (23 ـ 24) من سورة التكوير.
([2]) مجموعة مصنفات شيخ الإشراق 2: 9 ـ 10.
([3]) ورد هاذان البيتان في المخطوط باللغة الفارسية وخِدمة للقاري ترجمناهما للعربيّة.
([7]) خبر لقوله: (صدق) من قوله: (فإنا نقول: صدق…).
([10]) لا يقال: لو تمّ هذا الدليل لدلّ على عدم تحقّق الممكن مطلقاً وانحصار الموجود في الواجب بالذات؛ إذ الاحتمالات المتصوّرة في صدق مفهوم الموجود على فرده منحصر فيما ذكرت. وعلى بعض [تلك](1) الاحتمالات [يكون](2) ذلك الفرد الموجود واجباً بالذات، وعلى بعض آخر من تلك الاحتمالات يلزم موجوديّة الممكن بكون الوجود حالاً فيه أو محلاً له أو بارتباطه بالأمر المباين له. وكلٌّ من تلك الاحتمالات ممّا يقرّر بطلانه عند المحققين على ما صرّحوا به في كتبهم؛ فيلزم انحصار الموجود في الواجب بالذات. وهذا خلف؛ لأنا نقول على ما اخترناه: الممكن موجود بارتباطه بالأمر المباين له ارتباطاً خاصّاً غير الحالّيّة والمحلّيّة، وذلك الأمر المباين هو الموجود الّذي يكون ذاته بذاته مصداقاً لصدق مفهوم الموجود، فهو الواجب بالذات. ولا محذور في ذلك أصلاً، ولا إشكال قطعاً على ما حققته وقررته في مظانّه.
وهذا الوجه [أحد](3) الاحتمالات المذكورة في صدق مفهوم الموجود على فرده، وهو ظاهر.
وأما على رأي الجمهور(4)، فنختار أن صدق مفهوم الموجود على الممكن الموجود باعتبار أمر انتزاعيّ هو الوجود، ومبدأ انتزاعه هو الممكن، لا من حيث هو، بل باعتبار نسبته على الفاعل الموجود المباين له؛ فهو أيضاً من تلك الاحتمالات.
فإن قيل: لا فرق بين ما اخترته من كيفيّة وجود الممكن ومختار الجمهور أصلاً.
قلت: بل بينهما فرق فإن ذات الممكن على رأي الجمهور أمر مستقل له إضافة إلى الفاعل المباين له بالكلّية.
وعلى رأينا ليس للممكن هويّة مستقلة مباينة للواجب بالذات، كل المباينة، بل لا يمكن أن يشار إليها إشارة عقليّة، بحيث تمتاز تلك الهويّة عن فاعلها في الإشارة العقلية حقيقة. وفي رأيي [أنه](5) إشكال لا محيص عنه إلّا بالرجوع إلى ما اخترناه على ما حقّقناه في بعض رسائلنا منه&. (هامش المخطوط)
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في المخطوك ذلك.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في المخطوك: (احدى).
(4) وردت هذه العبارة مكررة في المخطوط.
(5) زيادة اقتضاها السياق.