التضحية في سبيل الله ـ 07

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مفهوم الشرف عرفي

ثم إن مفهوم الشرف الذي يتفانى الناس من أجل بلوغه، والوصول إليه، والحصول عليه هو مفهوم عرفي يحدده المجتمع، وهذا يعني أن الإمام× انطلاقا من النظرة الإسلامية الواقعية، واستنادا إلى معالجات السماء أراد أن يبين لهم بأن زمن الإقتار غير زمن الثراء والرفاهية، والحكيم الذي يعني أنه يتصرف بحكمة ـ أي يضع الأشياء في مواضعها ـ يعرف كيف يتصرف مع كل حالة بما يقتضيه مقامها. وهذا يعني أن الأمر ينصبّ حول فكرة مراعاة الأمر لمقتضى الحال الذي يعيشه الإنسان في تلك اللحظة، فالحال إذا ما اقتضى أن يعيش فقيراً كان لزاماً عليه أن يعيش كذلك حتى يواسي الفقراء، وكذلك من جهة أخرى إن لم يكن هنالك فقراء واقتضى الحال أن يكون المنطلق: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾، فإن عليه أن يظهر نعمة الله تبارك وتعالى عليه لا أن يخفيها؛ حتى يكون حامداً لله سبحانه وتعالى بالقول والفعل.

إذن فالإمام× يريد أن يبين لهم بأن زمن أجداده^ إذا كان زمن إقتار ليس عند من فيه أموال ولا خيرات، فإن الزمان الذي يعيش فيه هو على خلاف ذلك، ولما كان أمير المؤمنين× إمام الأمة فإنه لابدّ أن يتأسى ويواسي الفقراء، فكان يتخلى عن حقوقه لهم وينفق عليهم جميع ما عنده، بل كان حينما يملك ثوبين يتصدق بأحسنهما وأفضلهما، أما هذا الوقت الذي هو× فيه فإنه يختلف عن ذلك الوقت حيث أقبلت الدنيا على أهلها، وأرسلت السماء عزاليها، وفاضت أنهار الأرض، وأثرى الناس ورُفّهوا، بل إن بعضهم أثرى ثراء فاحشاً، فاختلف الأمر هنا؛ فكان اللازم على الإنسان أن يكون مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى الآنف، وهو: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾؛ لأنهم أبرار الاُمة، وأبرارها أحقّهم بخيرات الدنيا: «فأحقّ أهلها بها أبرارها».

إذن فأمير المؤمنين× كان يعيش في مجتمع يقتسم التمرة شخصان لقلة الخيرات في تلك الأزمنة، فإن التعامل حينئذٍ ينبغي أن يكون متناسبا مع هذه الظاهرة، وهو بخلاف ما عليه الأمة الإسلامية في زمان الإمام الرضا× حيث الأموال والفتوحات وخراج الأنصار والولايات الذي كان يصل إلى مركز الدولة، فكان الناس يعيشون حالة قصوى من حالات الرفاهية والخير.

وهذا الأمر كله مبتنٍ على حقيقة أن الله سبحانه وتعالى حينما ينعم على عبده بنعمه، فهل إن هذا العبد يولي ظهره لهذه النعم الإلهية، ويتركها جاحداً لله تبارك وتعالى ولنعمه عليه بهذا التصرّف، أم إن عليه أن يقبل عليها وينتفع بها، ويتصرف بها كما أمر الله سبحانه؟

ولهذا فإن الإمام× كأنما يريد بلسان الحال أن يقول لهم: لا تجعلوا الدين أمراً ازدواجياً ذا مبادئ ضبابية، ومفاهيم معوّمة من الممكن أن تهوي وتقع في أي لحظة، بل انظروا إلى الدين نظرة واقعية تكشف عما فيه من ديناميكية وحيوية واستمرارية تتناسب مع حياة كل مجتمع في كل زمان وفي كل مكان. إذن فعلى الإنسان ألّا ينظر إلى الدين بهذه النظرة المتخلفة التي تعني أنه من خلال هذه النظرة إنما يحول الدين إلى ألفاظ خاوية، بل إن عليه أن ينظر إلى الدين بتلك النظرة الواقعية التي يعبر من خلالها، أو من خلال تصرفاته بناء عليها عن المرادات الحقيقية لله تبارك وتعالى من خلال قوانين ونظم هذا الدين الحنيف؛ ولهذا فإنه× استشهد لهم بقوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾.

وعليه فإن الإسلام ينظر إلى الفقر الذي يكون عادة ـ كما ذكرنا آنفاً ـ من إفرازات المجتمعات البشرية نفسها، ومن مخلفات تفكيرها وتعاملاتها السلبية مع الحدث، فهو إفراز مرَضي غير طبيعي يعبّر عن رغبة شاذّة للبعض بالاستحواذ على خيرات المجتمعات ومقدّرات أبنائها، فالإسلام يرى أن هذا الفقر هو ظاهرة مرضية قاتلة؛ كونه عاملاً مساعداً إن لم يكن  أساسياً في انتشار الجريمة داخل المجتمعات الاسلامية. وعليه فلابدّ من القضاء عليه؛ كي نصل إلى مرحلة الحدّ الحقيقي والفعّال من الجريمة، وتحصين المجتمعات البشرية هذه من الانحراف، والوقوف بوجه كل تصرف من الممكن أن يسيء إلى نقاء الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية التي فطر الله تبارك وتعالى الإنسان عليها.

يتبع…

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة