التضحية في سبيل الله ـ 06
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
المبحث الثاني: آلية معالجة الفقر في الإسلام
ثم إن المشرع الإسلامي الأقدس إذ يقول في هذه الآية الكريمة: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ﴾ فهو إنما يريد أن يؤكد على أمر يصب في صالح المجتمعات البشرية نفسها ينطلق من خلاله إلى محاولة معالجة هذه الظاهرة السلبية التي تبسط وجودها على هذه المجتمعات، وتقرر أن هذا الباب ـ أي باب الفقر ـ يجب وينبغي إغلاقه والقضاء عليه إذا ما أراد الإنسان أن يعيش داخل مجتمع يتوفر على مقومات الراحة والسعادة والهدوء والطمأنينة والسلامة.
وهذا الأمر لا يقتصر على الفقير فقط، بل إنه يشمل حتى الغني الذي سوف يعاني من وجود فقراء في المجتمع الذي يعيش فيه من خلال تحول أولئك الفقراء إلى أدوات تقض مضاجع الأغنياء، وتحارب وجودهم، وتسعى إلى سرقة أموالهم كما هو حال الأعم الأغلب من الفقراء، فضلاً عن أنه حال الأعم الأغلب من المجتمعات غير الدينية التي تبتعد عن الله تعالى، وعن الأديان، وعن أخلاقيات السماء.
إن الإسلام إذ يسعى إلى محاربة هذه الظاهرة فإنه إنما يسعى إلى ذلك منطلقاً من قناعاته المستمدّة من الواقع، والمبتنية على أساس متين ثابت في أرضية صلبة تقرر أن الفقر إن لم يكن السبب الرئيس في مشاكل المجتمع، فهو عامل أساسي ورئيس في حصول تلك المشاكل فيه؛ كونه يمثل ظاهرة تكشف عن حالات كثيرة من مهاوي انحرافات المجتمعات البشرية وتغوّل أفرادها، وبالتالي فإنه كرد فعل يقوم بكثير من التصرفات التي يضعها علماء الاجتماع وعلماء القانون في رف الجريمة الاجتماعية أو الاقتصادية المتعمدة. وحتى الإنسان نفسه إذا ما كان موضوعياً، فإنه من المستحيل أن يمر بمجتمع فيجد فيه طبقة أو شريحة تعيش الثراء الفاحش، وفي الطرف الآخر منه تعيش الفقر المدقع القاتم، ثم ينظر إلى هذا المجتمع بنظرة احترام؛ ذلك أنه يرى أن هؤلاء الأغنياء لو كانت لديهم أدنى ذرّة من الأخلاق، لما تركوا أولئك الفقراء يعايشون الموت والحاجة والفاقة كلّ لحظة في حين أنهم يعيشون الرفاهية الترف والبذخ بكل أبعادها.
إذن فالمجتمع الذي يحترم نفسه، والذي ينبغي أن ينظر إليه بنظرة احترام إنما هو ذلك المجتمع الذي لا يسمح بأن يرى فيه أي مشهد من مشاهد البؤس، ولا أي منظر من مناظر الإثم التي تشوه نقاءه وتماسكه ونظرة الآخرين إليه. فإذا ما كان المجتمع يعيش الفقر فإن على الآخرين ـ سيّما إن كانوا أغنياء، بل هم أولى بالقيام بهذا ـ أن يواسوا الفقراء ويتأسوا بهم؛ تأسياً بتعاليم السماء؛ حتى لا يثيروا في نفوسهم انفعالات؛ سواء كانت انفعالات ناشئة عن غضب وحسد وحقد، أو انفعالات ناشئة عن شعور بالتصاغر، وأنهم أقل من هؤلاء الأغنياء، فإن أصبح المجتمع كله يعيش حالة الغنى؛ فحينئذٍ لا بأس في أن يظهر الغني غناه؛ بناء على قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾([1]).
رد الإمام الرضا× على صوفية زمانه
ومما يذكر في المقام ما يرويه بعض المحدّثين أن الإمام الرضا× لبس يوماً ثياب الخز فوق الصوف، فقال له بعض جهلة الصوفية لما رأى عليه ثياب الخز تلك: كيف تزعم أنك من أهل الزهد، وأنت على ما نراه من التنعّم بلباس الخزّ؟ فكشف عليه السلام عما تحته، فرأوا تحته ثياب الصوف، فقال× لهم: «هذا لله، وهذا للناس»([2]).
رد الإمام الصادق× على سفيان الثوري
وقد حدث مثل هذا الموقف للإمام الصادق× مع سفيان الثوري، ذلك أنه مرّ في المسجد الحرام، فرأى الإمام أبا عبد الله الصادق× وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان، فقال: والله لآتينه ولاُوبّخنّه. فدنا منه، فقال: يابن رسول الله، ما لبس رسول الله| مثل هذا اللباس، ولا علي×، ولا أحد من آبائك! فقال له الإمام×: «كان رسول الله| في زمان قتر مقتر، وكان يأخذ لقتره وإقتاره، وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عز إليها، فأحقّ أهلها بها أبرارها: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾([3])، ونحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله. غير أني يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما ألبسه للناس».
ثم اجتذب يد سفيان فجرّها إليه، ثم رفع الثوب الأعلى، وأخرج ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً، فقال: «هذا ألبسه لنفسي، وما رأيته للناس». ثم جذب ثوباً على سفيان أعلاه غليظ خشن، وداخل ذلك ثوب لين، فقال: «لبست هذا الأعلى للناس، ولبست هذا لنفسك تسرّها»([4]).
يتبع…
_________________
([2]) عوالي اللآلي 2: 29 / 71.
([4]) الكافي 6: 442، باب اللباس، ح8. التفسير الصافي 2: 191. وسائل الشيعة 5: 20، أبواب أحكام الملابس ولو في غير الصلاة، ب8، ح5778.