التضحية في سبيل الله ـ 05
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
البحث الثالث: جذور الفقر
ولو أننا أردنا أن نبحث قليلا عن مناشئ الفقر وأصوله وجذوره فإننا سوف نجد أنه حالة ليست أصيلة داخل المجتمعات الشرية؛ إذ إنه ليس أمرا طبيعيا فيها أبدا، بل إنه حالة طارئة عليها نتيجة استحواذ بعض أصحاب النفوس الوضيعة والمريضة على الثروات استحواذا كاملا فيؤدي بهم الأمر إلى الاستيلاء على مقدرات الناس وثرواتهم وحقوقهم التي فرضها الله لهم، فيتمكنوا من السيطرة على موارد الثروة في البلاد ليقوموا بتكديس الثروة عندهم وحرمان الفقير منها؛ ليتحولوا بعد ذلك إلى حيتان ضخمة أو أخطبوطات تمد أذرعها لتستعمر كل مفاصل الحياة البشرية وتسخيرها وتسييرها لخدمتهم دون أن يكون للفقير حظ ولا كفل ولا نصيب من ذلك.
إن من المستحيل اعتبار الفقر ظاهرة طبيعية في المجتمعات البشرية؛ لأننا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان خلق له معدة وفماً، فهو بطبيعة الحال يحتاج إلى رزق يأكله وإلى طعام يقيم به إوده، ويشد به عوده، والله سبحانه وتعالى قد تكفل بإطعام هذا الإنسان وبإرزاقه، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق له تلك المعدة وذلك الفم، ثم لم يكفل له رزقه، فإن هذا يعني أن في البين عبثاً، وفي المسألة إخلإلّا وهما مما ينبغي أن تنزه ساحة قدس الله عنهما؛ فالله سبحانه وتعالى بعيد كلّ البعد عن العبث والإخلال البتة. فمن المستحيل إذن أن يفتح الله تبارك وتعالى فماً ثم لا يكفل له طعامه، أو يخلق معدة ثم لا يطعمها ولا يشبعها.
إذن فالله سبحانه إذ خلق المعدة فإنه خلق لها الرغيف الذي يملؤها، فإن وجدنا معدة فارغة فإننا لابدّ أن نؤمن إيماناً كاملاً مقطوعاً به أن أحداً ما وراء ذلك، وهو الذي قد قام بسرقة ذلك الرغيف المخصص لها، وإلّا فإنه لأي إنسان منا أن يتساءل عن مصير ذلك الرغيف الذي قد تعرّض للسرقة، والذي سرقه هو ذلك الإنسان الذي قام بتجميع الثروة وتكديسها وتحول إلى حوت تبتلع الاقتصاد داخل المجتمع كله، بل إلى وحش فاغر فاه؛ ليبتلع كل مصادر أقوات الآخرين التي خصصها الله سبحانه وتعالى لعباده، فيحرمهم منها، ويجعل منهم أناساً يعيشون حالات الجوع والفقر، والعوز والفاقة والحرمان.
إذن فالذي سرق قوت هذه المعدة هو ذلك الشخص الذي أشار إليه الإمام أمير المؤمنين× بقوله: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ، فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إلّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ، وَاللهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ»([1])، الذي يعني أن هنالك شريحة من المجتمع تتمدد على حساب أفراد المجتمع الآخرين الذين يجن عليهم الليل؛ سواء كانوا يتامى، أو فقراء، وهم لا يجدون رغيفا على مائدتهم يأكلونه، في حين أننا نجد في الطرف الآخر طاولة أخرى حينما يجن عليها الليل تغدق عليها كؤوس الخمور، وتطرح عليها أدوات الخنا وآلات الفجور. وموائد اُخرى غيرها للقمار تزدحم عليها الأموال التي أخذت من غير حلّها، وها هي توضع في غير محلّها؛ حيث يمارس فيها الرذيلة والزنى والفجور، وتدار بها كؤوس الخمور، ويلعب بها الميسر والقمار، وكل ما يمت إلى الرذيلة والخطيئة بصلة.
وهذا اللون المرَضي من الممارسات، والذي يترشّح عادة من هذا الاختلال الاقتصادي المتعمّد في المجتمع، ومن عدم التوازن المالي فيه، هو الذي ينبئ عن نظام توزيع ثروة فاسد يقوم على أساس تكديس الثروة في جانب، وانحسارها من جانب آخر. وعدم التوازن هذا هو الذي يؤدي إلى خلق تلك المشاكل المرضية القاتلة داخل المجتمعات البشرية على أصعدتها كافة؛ لتقودها في النهاية إلى مصيرها الأسود.
إذن فمثل هذه المجتمعات سوف تعيش حتماً ظواهر الانحراف الخلقي، وفساد الطبائع والأخلاق، وبيع الدين والعقيدة والكيان والكرامات، وهذه الأعراض كلها تأتي غالبا من الفقر الناشئ من تكدس الثروة وانحسارها عن جانب آخر.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة المفجعة والمؤلمة، والتي تمثل نقطة سوداء في تاريخ البشرية جاء اعتناء المشرع الإسلامي الأقدس بعلاج هذه الظاهرة السلبية التي تجتاح أغلب المجتمعات المادية، والتي تنحسر معها كل الأخلاقيات والقيم؛ ليضع في طريقها كل سبل توفير العلاج المناسب لها، حتى إنه أقر بأن هذه الظاهرة مبتنية على الفقر وأنه لولا ملء معدة الإنسان فإنه لا يمكن أن يفكر حتى بالدين؛ فجاء الأثر الشريف: «اللهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرق بيننا وبينه؛ فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا ولا أدينا فرض الله»([2]) الذي يعني أن الإنسان إذا ما فرغت معدته فإنه لا يمكن أن يتوجه إلى أي شيء آخر مهما كان وأيا كان سوى توفير سبل ملئها وإشباعها، وبخلافه ـ أي إن كانت المعدة الجائعة باقية على حالها تلك دون أن تملأ، وأن تشبع ـ فإنه لا يمكن لنا أن نطلب من ذلك الإنسان أن يفكر تفكيراً عقلائياً أو منطقياً فيما يعترضه من أمور ومسائل حياتية داخل المجتمع مما يتعلق بحياته.
إن المرء إذا كان جائعاً فإننا لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن نلزمه بالاستقامة مادام باقياً على جوعه، ولا يمكن أن نطلب منه أن يكون متّزناً في حركاته وتصرفاته مادام يعيش ذلك الفقر المدقع ([3]).
إن الواقع يقول: إنه ليس هنالك من شخص يولد وهو فقير، أو يولد وهو غني، فالناس بأجمعهم يولدون عراة بطبيعة الحال، وما يلحق بهم بعد ذلك من غنى أن أو فقر فهو من العوارض التي تعرض للإنسان؛ بناء على أن الملكية أمر إضافي اعتباري وجعلي، أي أن الملكية بالنسبة للإنسان ليست ملكية حقيقية، بل إنها عبارة عن تلك العلاقة الانتفاعية بين الإنسان وبين ما يتمكن من التصرف فيه والانتفاع به.
وهذا الشيء قطعاً لا يولد مع الإنسان لحظة خروجه من رحم أمه، بل إنه حينما يلج المجتمع ويصطدم بقوانينه ونظمه التي غالباً ما تكون جائرة، وتصب في مصلحة الأغنياء فقط، فإنه سوف يتحول إلى إنسان خطير أو غني؛ الأمر الذي يعني أن الإنسان ليس له من أمره شيء، وليس له مما يملكه شيء إلّا بمقدار تلك المنفعة التبادلية التي يستطيع من خلالها التصرف بما مكنه الله سبحانه وتعالى منه، وأعطاه قابلية الانتفاع به. وهذا يقودنا إلى عبارة نوجز بها هذا المقام فنقول: الفقر ليس ظاهرة تولد مع الإنسان، وإنما هو صفة يأخذها عن طريق اصطدامه بقوانين المجتمعات البشرية التي تلصق به تلك الصفة عن طريق تعامل وجوه المجتمع معه.
يتبع…
______________________
([1]) نهج البلاغة / القول: 328.
([2]) المحاسن 2: 586 / 83. الكافي 5: 73 / 13، 6: 287 / 6. مكارم الأخلاق: 154. وسائل الشيعة 17: 30 ، أبواب مقدمات التجارة، ب6، ح21902. وقد سئل أبو ذر (رضي الله عنه) عن أفضل الأعمال بعد الايمان، فقال: «الصلاة، وأكل الخبز». فنظر إليه السائل كالمتعجب، فقال (رضي الله عنه) له: لولا الخبز ما عبد الله تعالى. المبسوط 30: 258. تفسير السمعاني 4: 132.
([3]) قال عزَّ من قائل في كتابه الكريم: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ الأعراف: 32.