التضحية في سبيل الله ـ 04

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

شعراء التملق وِشعراء الكرامة

وكما أن الفقر من الممكن أن يخلق لنا في المجتمعات عوامل جريمة، فإنه كذلك من الممكن أن يخلق لنا عناصر تبيع كرامتها، فتصبح متملقة لغيرها، فتبيع كرامتها عنده، كأن يلتصق هذا الشخص بركاب ظالم، أو ركاب منحرف؛ لأنه جائع ويريد أن يحصل على لقمة عيشه لا من خلال السرقة أو القتل، بل من خلال التملق وبيع الكرامة للآخرين. وهذا عنصر سلبي في المجتمع أيضاً؛ لأنه يقود هذا الإنسان إلى بيع وجوده وكينونته، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بحفظ كرامة الإنسان كونه نفسا محترمة، فبالك بالإنسان المسلم منه.

وهذا الأمر نجده أكثر عند أصحاب الأقلام من الأدباء سيما الشعراء الذين عرضوا أقلامهم للبيع، ليتملّقوا ذوي المال والجاه والسلطان، وينجح من يدفع فيها أكثر، فهي أقلام تشترى؛ لأن صاحبها إما فقير محتاج إلى تلك الأموال التي ضاق قلمه وكرامته من أجلها، أو لأنه منحرف يريد أن يتمتع بملاذ الدنيا فلا يقنع بما عنده، فيضطر إلى بيع قلمه وكرامته فيمدح من ليس أهلاً للمدح، ويذم أمامه من ليس أهلاً للذم؛ من أجل أن يغدق عليه بشيء من المال، أو بدار يسكنها أو ما إلى هنالك.

وربما يلتفت البعض إلى هذه الحقيقة، فيقر بأن هذا الذي يمدحه ما هو إلّا صنم لا يستحق ذلك المدح، لكنه يبرر تصرفه هذا بأنه جائع بحاجة إلى رغيف خبز له ولعائلته فأصبح مضطرّاً إلى هذا التصرف نتيجة إلحاح الحاجة والفقر والجوع عليه. وهذا الأمر في واقعه ليس مبرراً كاملاً لأن يبيع الإنسان كرامته، أو يصبح متملقاً لغيره من الظلمة أو الجبارين أو الخطاة، مادام بإمكانه أن يكتسب قوته من غير قلمه الذي يكون هنا قد استخدمه في غير ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإنه من الممكن أن يعمل أو يمارس أي نشاط اقتصادي يكتسب من خلاله قوته شريطة أن يكون ذلك النشاط مشروعا وضمن دائرة الرضا الإلهي.

إذن فالفقر والحاجة إلى الرغيف ليسا مبررين كاملين لأن يلجأ الإنسان إلى بيع كرامته، أو إلى أن يصبح امرأ متملقاً غيره، معتاشاً بلسانه؛ لأن هذا الأمر يستلزم كما هو مقرّر حالتين سلبيتين:

الاُولى: مدح من يستحق الذمّ وذمّ من يستحق المدح

ولنُشر هنا إلى أن مدح من لا يستحقّ المدح أمر هين قياساً إلى الطرف الثاني المعادلة؛ فإذا ما انتقلنا إلى الجانب الآخر من هذه المعادلة وهو ذم من لا يستحق الذم فسنجد أنه أشدّ عند الله سبحانه؛ لأن الجانب السلبي في الحالة الأولى هو الكذب، أما الحالة الثانية ففيها ما هو أكثر من ذلك كما سنراه من خلال معالجة هذه الحالة.

الثانية: استلزامها الكذب وتوهين المذموم ظلماً

إن هذه الحالة تنطوي على جانبين سلبيين أولهما: الكذب، وثانيهما: توهين شخصية المذموم، والإساءة إليه ككيان محترم، واغتياله معنوياً. وهذه التصرّفات يرفضها الشارع الإسلامي، بل إنه قد نهى عنهاً نهياً مشدّداً، واستنكرها استنكاراً كبيراً.

إذن فهذه الأمور وإن لم تكن مبرّراً كاملاً لحصول بيع الكرامة هنا، لكنها يمكن أن تعتبر عاملاً مساعداً على حدوث هذا؛ سيما إذا ما اشتدت على هذا الإنسان وطأة الحاجة، وعضّه ألم الجوع، وأوحشته مجاني الفقر التي تجعل منه كائناً يستشعر أنه غريب عن المجتمع نتيجة فقره، فيتحول إلى ذلك الإنسان المتصف بأخسّ صفات القردة حيث يضطر إلى أن يمدح ويذم على نحو غير صحيح ولا مشروع.

وهذا المعنى يشخصه لنا الدعاء الوارد عن الإمام أمير المؤمنين×، والذي يقول فيه: «اللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ، ولَا تَبْذُلْ جَاهِيَ بِالإِقْتَارِ؛ فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ، وأَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ، وأُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي، وأُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي، وأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّه وَلِيُّ الإِعْطَاءِ والْمَنْعِ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»([1]).

أي اللهم احفظ لي وجهي بالغنى، ولا تدعه يتمرغ على أعتاب اللئام، ولا تجعلني ممن يبيع كرامته؛ لأن الإمام× يعرف أن البعض ممن يقع تحت طائلة الفقر أن يتحول إلى كيان هزيل لا كرامة له، هذا إذا لم يتحول إلى عنصر هدام داخل المجتمع من خلال ممارسته الأعمال الإجرامية من السرقة والقتل والاعتداء على حرمات الآخرين وأموالهم. ولكون الفقر على هذه الصفة السيئة الشنيعة فإننا نجد أن الله سبحانه وتعالى قد شدّد على مسألة معالجة هذه المشكلة المعضلة من خلال آية المقام الكريمة، وغيرها من الآيات الكريمة التي تنتظم في السلوك نفسه عبر عملية إعادة توزيع الثروة بين أفراد المجتمع. فالفقر لا يعدو ما قرّرناه آنفاً من كونه عامل فساد وإفساد في المجتمعات؛ ولذا فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين× قوله: «ما ضرب الله العباد بسوط أوجع من الفقر»([2]).

يتبع…

________________________

([1]) نهج البلاغة / الدعاء: 225. وورد كذلك عن الإمام السجاد× في الصحيفة السجادية: 100 / 20 مِنْ دُعَائِه× فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، ومَرْضِيِّ الأَفْعَالِ، ولكن ليس فيه: «إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

([2]) شرح نهج البلاغة (الحكم المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×) 20: 301 / 444، وقد ورد في ذم الفقر أحاديث شريفة كثيرة منها: «خير الدنيا والآخرة في خصلتين: الغنى والتقى، وشر الدنيا والآخرة في خصلتين: الفقر والفجور». شرح نهج البلاغة 20: 301 / 446. ومنها قوله×: «الفقر هو الموت الأكبر». الخصال: 620، باب الواحد إلى المائة، ح10. معارج نهج البلاغة (علي بن زيد البيهقي): 435 / 2087. وقوله×: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر». المقنعة: 401. مصباح المتهجد: 681. مسند أحمد 5: 36، 39، 42، 44. سنن أبي داود 2: 496. سنن النسائي 3: 74، 8: 262، 267، فهو× قد جمع هنا بين الكفر والفقر؛ لخطورة الفقر ومضاعفاته الاجتماعية الاقتصادية السلبية.

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة