التضحية في سبيل الله ـ 03
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
إشكال حول توزيع الأموال
ومن الممكن أن يرد هنا إشكال مفاده أنه كما أن الفقير من الممكن أن يصبح عامل فساد في المجتمع، فإن الغني من الممكن كذلك أن يصبح عامل فساد فيه كما هو مشاهد من تصرّفات الكثير من الأغنياء؛ وعليه فلا ينبغي إلقاء اللوم على الفقر وكونه المسبب الوحيد لحالات الشذوذ والفساد والجريمة الحاصلة داخل المجتمع. وبيان هذا يتم من خلال بيان حالتي كسب المال، وإنفاقه:
أولاً: اكتساب الأموال
إن تقدير الحال هنا يتجسّد من خلال ملاحظة أن المجتمع الذي يعيش حالة انشطار واضحة يكون أحد طرفيها فقيراً مدقعاً، والطرف الآخر غنياً غنى فاحشاً من الممكن أن يقع فيه الفساد من كليهما؛ فكما أن الفقير من الممكن أن يتعرض إلى الفساد، وأن يكون عاملاً من عوامله، فكذلك الغني من الممكن أن يتعرض إلى الفساد، وأن يكون عاملاً من عوامله. فكون الفقير عاملاً من عوامل الفساد في المجتمعات يتّضح من خلال كونه يتحول إلى أداة جريمة قتل أو سرقة أو نهب أو ما إلى ذلك. وكون الغني عاملاً من عوامل الفساد يتّضح من خلال كونه يكتسب أمواله من طرق لا ترضي الله تبارك وتعالى، وينفقها في طرق لا ترضيه جلّ شأنه كذلك. فهو إذن يكتسبها من غير حلّها، ويصرفها ويضعها في غير محلّها الشرعي.
ويتأكد هذا الأمر أكثر إذا ما عرفنا أن الإسلام ينظر إلى هذه الأموال على أنها طاقة، وهذه الطاقة إذا لم توضع في موضعها فسوف تنحرف، وانحرافها يعني تحولها إلى رذيلة. فالأموال المكتسبة تارة تكتسب من حلال، كأن تكون عن طريق البيع والشراء والميراث أو الهدية أو الجعالة أو ما إلى ذلك من موارد الكسب المشروع، فهذا أمر لا بأس به؛ ذلك أن الإسلام قد أمرنا بكسب الأموال عن هذا الطريق ([1])، أما إذا ما اكتسب الإنسان هذه الأموال عن طريق غير طريقها الذي رسمته السماء، فإنها تتحول إلى سحت ورذيلة؛ الأمر الذي يعني أن من بيده هذه الأموال لا يملكها؛ وهو ما يعني في النتيجة بأنه لا يحق له التصرف بها بيعاً وشراء، وعطاء وهبة وما إلى ذلك.
ثانياً: صرف الأموال
وكذلك الحال مع صرفها؛ فالإنسان تارة يعمد إلى التصرف إلى هذه الأموال بيعاً وشراء ضمن إطار الشرع، فلا يحيد عن دائرة أمره ونهيه، وفي هذه الحالة يكون قد صرف الأموال فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، كأن يشتري بها داراً للسكن أو تجارة ليوسع بها على نفسه وعياله، أو يصرفها في مواردها الشرعية الأخرى كوجوه البِر والإحسان، أو الإنفاق منها في سبيل الله سبحانه في كل وجوب الإنفاق المشروعة.
فهو في مثل هذه الحال يكون قد تصرف ضمن نطاق الشرع الحنيف دون أن يحيد عنه، أو أن يشذ عن قواعده ومقرراته وقوانينه. أما إذا ما عمد إلى صرفها في غير موردها كأن يكون قد اشترى بها أموراً يحرم شراؤها، أو تناول بها طعاماً وشراباً يحرم أكله وشربه، أو انغمس في ملذات الدنيا ولهوها، فإنه يكون قد صرف هذه الأموال في غير ما يرضي الله سبحانه وتعالى؛ فيكون بهذا قد ضيع تلك الطاقة المودعة في الأموال، والتي جعلها الله سبحانه وتعالى لنا حتى نستفيد منها بالشكل الصحيح من خلال التصرف الصحيح.
وهذا الأمر يجري حتى في الأمور المحللة بالعنوان الأولي، أي أنه كما ذكرنا من موارد الصرف الصحيح أن له أن يشتري اللباس الذي يرتديه، فهذا أمر مشروع ومحبب إن لم يكن واجباً إذا ما اقتضى الأمر معه ستر عورته، وستر باقي أجزاء بدنه، وصيانته عن الضرر؛ سواء كان عن البرد أو الحر، أو عن غيرهما من المؤثّرات. أما إذا ما استطال هذا الأمر ليصل إلى حد الإسراف، فإن هذا التصرف حينئذٍ يصبح بالعنوان الثانوي أمراً مذموماً، ورذيلة نهى الإسلام عنها بنص الكتاب العزيز ([2]).
إذن فالإسراف في المأكل والمشرب والملبس أمر مذموم مع أن الأصل في المأكل والمشرب والملبس أنها أمور واجبة أو مستحبة للإنسان، وذلك فيما لو توقفت حياته عليها فإنها تصبح واجبة، أو أن هذه الحياة تحققت أولاً، لكنه يحتاج إلى أن يمدّها بالقوة فإنها تستحب حينئذٍ. أما إذا ما استطال الأمر كما ذكرنا عنده وصل إلى حد الإسراف في هذه الأمور، فإن الأمر حينئذٍ يخرج عن نطاق المشروع إلى دائرة غير المشروع.
نتيجة
وخلاصة القول أنه إذا ما انحرفت الأموال فإنها تتحول إلى رذيلة؛ لأنها سوف تتحول إلى تصرفات غير شرعية وغير لائقة كأن تذهب بصاحبها إلى رذيلة الزنى والعياذ بالله، أو شرب الخمر، أو لعب القمار، أو أي وسيلة من الوسائل الأخرى التي تكون عاملاً أساسياً في إفساد المجتمع، وهدم أواصره، وتفتيته في النهاية؛ ليتحول بعدها إلى مجتمع متهالك على اللذة والشهوة، مبتعداً عن الهدف الأساس من المجتمع الذي أراده الله سبحانه وتعالى له وهو مجتمع متّحد قائم على التوادّ والتحابّ، وأن يكون أفراده بعضهم مع بعض ولبعض كالبنيان المرصوص([3]). وبهذا فإن الأموال تتحول من كونها أداة لقضاء حوائج الناس إلى معول يهدم المجتمع ويحوله إلى مجتمع بهيمي بعد أن كان المفترض به أن يكون مجتمعاً بشرياً حقّاً، تسوده المحبّة والوفاق والوئام بعيداً عن حالات النفاق الاجتماعي التي يمكن أن تأخذه بعيداً عن مظانّ الهدف السماوي في أية لحظة من اللحظات التفرّدية التي تنطوي عليها خطابات النفوس البشرية وطبائعها وتبادلاتها بالشكل الذي تصبح معه عائقاً كبيراً، وحائلاً قوياً دون تحقيق وجه العدل الإلهي في المجتمعات البشرية.
الجواب عن هذا الإشكال
والجواب عن هذا الإشكال بشكل صحيح ودقيق لا تتضح معالمه، ولا تستبين صورته إلّا من خلال مراجعة البرنامج الاقتصادي الإسلامي في مواجهة حالات الفساد الاقتصادي، والشذوذ المعيشي التي من الممكن أن تحصل داخل المجتمع، وتصل إلى مرحلة الخطر فيه. وهذا البرنامج الإسلامي يعتمد أساساً على أمرين:
الأول: أن جوهر الإشكال يؤيد نزعة الإسلام إلى أن الفقر من عوامل الجريمة
إن حقيقة هذا الإشكال تؤيد ما يذهب إليه الإسلام نفسه من كون الفقر الفاحش مدعاة لحصول الجريمة داخل المجتمع بأن يصبح صاحبه عنصراً ضارّاً فيه، وكذلك الغنى الفاحش والثراء الكبير الحاصل للإنسان داخل المجتمع؛ حيث إن صاحبه من الممكن أن يفسد بعد أن يرى الأموال تجري بين يديه جريان الماء؛ ولهذا فإننا نرى أن الإسلام أراد أن يعيد توزيع الثروة؛ حتى لا تتكدس هذه الثروة في جانب دون جانب، وبالتالي يصبح تكدسها سبباً لحصول الفساد عند الغني والفقير على حد سواء؛ عند الفقير بأن يصبح لصاً أو قاتلاً من أجل الحصول على لقمة عيشه ولإعالة أبنائه، وعند الغني لأنه يرى أن الأموال التي تكدست عنده تعطيه الحق والحرية في أن يتصرف كيف شاء وكما يشاء؛ فيفعل بها ما يشاء حتى وإن كان هذا السلوك أو هذا التصرف والفعل محرماً من وجهة نظر المشرع الإسلامي الأقدس.
إذن فصرف الغني ينبغي أن يأخذ الطريق المستقيم الذي أمر به الله سبحانه وتعالى فيصرف أمواله فيما يرضيه جلّ وعلا، وفيما يرضي نفسه كإنسان ينبغي أن يتصرف على نحو من بشريته، وطابع من إنسانيته، وعلى لون من ألوان التضحية ومساعدة الآخرين التي يستمدها من فطرته ككائن اجتماعي؛ حيث خلقه الله سبحانه وتعالى كذلك. وكما ذكرنا فإنه كما أن صرف الأموال ينبغي أن يكون على نحو الاستقامة فإن الطريق الذي به تصرف الأموال الذي تصرف له الأموال ينبغي أن يكونا على هذا النحو من الاستقامة اللذين قررتهما إرادة السماء.
فقير القوة وفقير الفعل
ثم إن مصطلح الفقير عند أهل الفن يقع على عنوانين:
الأول: الفقير فعلاً (الغني قوة)
وهو الشخص الذي لا يمتلك فعلاً أموإلّا في لحظته تلك، لكنه يمتلك هذه الأموال بالقوة كأن يكون موظفاً عنده مرتب شهري مضمون يستلمه نهاية كل شهر. فمثل هذا يكون قد ضمن قوته ـ لمدة سنة، أو مدّة بقائه في عمله، بل حتى وفاته إذا كان يعمل لدى جهة أو هيئة أو مؤسّسة تضمن له حقوقه التقاعدية ـ من خلال هذا المرتب المضمون وإن لم يملكه فعلاً؛ فهنا نعبر عنه بأنه فقير بالفعل، لكنه غني بالقوة.
الثاني: الغني فعلاً
وهو الإنسان الذي يمتلك قوة سنته كاملاً من خلال توفره على المال الذي يستطيع أن يكفل له حياته وفق مستواه الاجتماعي والمعيشي لمدة سنة كاملة كأن يكون تاجراص يمارس أعماله التجارية اليومية، أو أنه يملك مبلغاً من المال تحت يده وتصرّفه يستطيع أن يمدّ يده إليه متى شاء أو احتاج، وكما شاء كلّما شاء.
الفقير قوة وفعلاً
أما إذا ما فقد الإنسان هاتين الصفتين، أي أنه لا يملك قوت سنته فعلاً كما هو شأن التاجر مثلاً أو من عنده أموال يكتنزها يستطيع أن ينفق منها خلال سنته تلك، فتكفيه لإنفاقه وفق مستواه ومنزلته الاجتماعية، ولا يملك قوت يومه أو شهره بالقوة كما هو شأن العامل والموظف، فإن هذا يسمى حينئذٍ فقيراً. وهذا الفقير يأمر الدين بالإنفاق عليه؛ لأن هذا الإنسان كما ذكرنا آنفا إذا لم ينفق عليه، ولم توفر له احتياجاته الأساسية من الملبس والمأكل والمشرب والمسكن، فإنه حينئذٍ من الممكن أن يتحول إلى عنصر جريمة داخل المجتمع.
وينبغي الالتفات هنا أنه ليس بالضرورة كل فقير من الممكن أن يكون منحرفاً؛ فإن كثيراً من الفقراء هم ذوو عفة وإيمان والتزام، بل إنهم ذوو كرامة وأنفة وعزة تأبى أحوالهم معها أن يمدوا أيديهم إلى الاستجداء فضلاً عن أن يمدوها إلى الحرام من خلال السرقة أو النهب أو قطع الطريق. لكن الأمر بالعنوان الأولي يعني أن الفقر من الممكن أن يكون عاملاً مساعداً على الانحراف كما هو مشاهد في كثير من المجتمعات غير الدينية، أو حتى المجتمعات الدينية، لكن غير الملتزمة، والتي تسودها الكثير من الجرائم، ويمارس أفرادها أعمإلّا وتصرّفات تبتعد عن الدين. وهذه الجرائم الاجتماعية حينما نبحث عن مسبباتها وجذورها ودوافع البعض إليها، فإننا سنجد أن الفقر هو العامل الأساس فيها.
يتبع…
_______________________
([1]) فكان حكم الاكتساب في الإسلام متوزّعاً على الأحكام التكليفية الخمسة؛ فالاكتساب تارة يكون واجباً فيما إذا ما تعلقت به حياة الإنسان أو حياة عائلته وأطفاله، وتارة يكون مستحبّاً فيما إذا تعلق الأمر بالتوسعة عليهم، وتارة يكون محرماً فيما إذا كان الكسب عن طريق نهى الله سبحانه وتعالى عنه، وتارة يكون مكروهاً فيما لو كان الأمر عن طريق كرّهه الله سبحانه، وتارة يكون مباحاً فيما لو لم يكن خاضعاً لأحد هذه الأمور الأربعة الآنفة.
([2]) قال عزَّ من قائل في كتابه الكريم: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾. الأعراف: 31.
([3]) قال عزَّ من قائل في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ الصف: 4.