التضحية في سبيل الله ـ 02
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
سرّ توصية الإسلام بالفقراء
ذكرنا أن آية المقام الكريمة هي من آيات إعادة توزيع الثروة، وهذه الإعادة لابدّ أن تكون في مجتمع فيه طرفان متضادّان: طرف يعيش النعيم والرفاهية بكامل أبعادهما، وطرف فقير معدم يعيش الفاقة والحاجة بمعانيهما كافّة، وإلّا لم تكن هنالك حاجة أو داعٍ أو ضرورة لمحاولة إعادة التوزيع هذه. والحال التي تبتني عليها هذه النظرية هو أن نخلق مجتمعاً متوازناً على الصعيد النفسي، والصعيد الاقتصادي، والصعيد الاجتماعي:
أولاً: الصعيد النفسي
حينما نضمن من خلال قانون اقتصادي عادل ـ عند أي دولة ـ للفقير حاجته من الطعام والشراب، والملبس والمسكن، فإننا بهذا نكون قد هدّأنا من نائرة نفسه، وثائرة غضبه وغرائزه التي حتماً سوف تجعل منه إنساناً يعيش القلق وعدم الاطمئنان إلى المستقبل المجهول الذي يمكن أن يوضع فيه هو وأطفاله ما لهم تتوفر له حاجاته الأساسية، وما لم يضمن احتياجاته الأولية له ولعائلته في الطعام والشراب واللباس والسكن كما بينا.
فاختلال هذا الأمر وحصوله يعني أنه سوف يعيش القلق وعدم الاستقرار النفسي، وهو ما يؤثر على المجتمع أولاً وعليه ثانياً بشكل سلبي؛ كونه سوف يخسره المجتمع؛ إذ يخسر ما عنده من طاقات عقلية أو جسدية من الممكن أن يوظفها في خدمة المجتمع وبنائه واستقراره، وتحويله إلى مجتمع يعيش الرفاهية.
إن حالة القلق كما نعرف هي من الحالات التي تقضي على الابدّاع عند الإنسان، وهذا الإنسان إذا كان يتميز بكونه ممن قد أفيضت عليه مواهب تجعل منه خلاقاً أو مبدعاً، فإننا نعرف أن المجتمع عادة بحاجة إلى هذا الابدّاع وإلى هذه المواهب؛ كي يتحرك ويتطور وتدور عجلة الحياة فيه بالشكل الصحيح وضمن النطاق الصحيح إلى الهدف الصحيح التي تسعى إليه المجتمعات البشرية ضمن نطاق الشرع والقانون، وضمن النطاق الذي رسمته السماء له، وبالحيلولة دون ظهور هذا الابدّاع عند هذا الإنسان فإننا نجد أن المجتمع قد فقد كل تلك الأمور الإيجابية التي يمكن أن تنتقل به إلى مستوى أسمى وأعلى. وتتجسد هذه المسألة بشكل أكبر فيما لو عرفنا أن هنالك شريحة عريضة من الناس يمثلون الفقراء داخل المجتمع، وهذه الشريحة العريضة من الممكن أن يوجد فيها أشخاص عديدون يعيشون هذا القلق الذي يحول دون ظهور الابدّاع عندهم.
ثانياً: المستوى الاقتصادي
لقد ذكرنا آنفاً أن هذا الأمر ـ وهو تكديس الثروة في جانب دون جانب ـ يعوق حركة الاقتصاد، ويضع عصا فولاذية في عجلة الحركة الاقتصادية لأي مجتمع من الممكن أن تتكدس فيه الثروات في جانب دون جانب آخر حيث تنعدم الحركة الاقتصادية بانعدام الشراء أو التبادل التجاري وما إلى ذلك، وهو ما يؤدي إلى شلل الاقتصاد إن لم يؤدِّ إلى موته.
ثالثاً: الصعيد الاجتماعي
ونعني به كما أشرنا إليه فيما سلف من حديثنا تحول أفراد الطبقة الفقيرة إلى ألغام موبوءة من الممكن أن تنفجر في أي لحظة لينتشر ضررها داخل المجتمع، بأن تتحول إلى عناصر إجرام عن طريق السرقة، أو القتل، أو قطع الطرق، أو إثارة عوامل إرهاب الآخرين داخل المجتمع. وهو ما لا تريده المجتمعات البشرية نفسها، فضلاً عن السماء التي تضع القوانين من أجل القضاء على هذه الظواهر السلبية التي يمكن أن تعتري المجتمعات البشرية كافة.
إذن فتكدس الثروات بشكل غير مشروع ولا مستساغ في جانب، وانحسارها انحساراً كاملاً أو شبه كامل عن جانب آخر يعني أننا نساهم في خلق هذه العناصر الإجرامية في المجتمع، ويعني كذلك أن المجتمعات البشرية بنفسها تصنع من يسعى إلى القضاء على راحتها وعلى استقرارها وأمنها وعلى حياتها بالنتيجة؛ سواء كانت حياتها الطبيعية، أو حياتها الاقتصادية، لكن إعادة توزيع الثروة يؤدي إلى الحيلولة دون حصول هذا، أو إلى القضاء عليه بشكل تام.
أسباب التحلّل في المجتمعات البشرية
إن أي خلل سواء كان اقتصادياً أو اجتماعياً أو أمنياً أو غير ذلك يطرأ على المجتمعات البشرية فإنه لابدّ أن يكون قائماً على أسباب عدة أدت إلى حصول هذا الخلل الذي يمثل حالة سلبية داخل المجتمع، ولعل أهم أسباب هذا الخلل الفقر الذي يدفع بصاحبه إلى ارتكاب كل ما يقدر عليه سواء كان صحيحاً أو غير صحيح من أجل القضاء على ما يعيشه هو من فقر؛ كي يضمن لقمة عيشه وعيش أفراد أسرته.
إذن فالفقر عامل هام وأساسي في حصول هذه الجرائم داخل المجتمع كما بيناه آنفاً، وهذه الحالة هي حالة اعتيادية؛ كونها تحيل الإنسان الطبيعي إلى كائن مرضي داخل المجتمع بسبب ما يستشعره من نقص وجوع وما إليه مما ينغص عليه حياته، فيسعى عن طريق تفرده بالقرار، ولجوئه إلى قوته في تحقيق إعادة التوازن هذه دون الرجوع إلى الدولة أو إلى القانون، فيعمد إلى السرقة أو القتل أو ما يرتبط بهذه الجريمة ـ وهي السرقة ـ من مضاعفات أدبية أو أخلاقية أو جنائية.
يتبع…